لملم دهشته صباح يوم صحو وقرر الذهاب إلى رجل عصملي يقيم على حافة المدينة.. وفي خاطره تساؤلات غاضبة... تعكر مزاجه فترات.. ويقشعر بدنه أخرى، كلما مرت الكلمة التركية في ذهنه ومخيلته «سفر برلك»*... حالما فقد شاهد رؤية في نومه، بابا يفتح على جده محفوفا بسحابة من الفراشات الملونة، تتطاير فوق رأسه.. ورأى في نومه بان جده بلحيته المصبوغة، يحكي للأطفال منتشيا عن فخري باشا المستبد، ورأى في نومه أطفالا مندهشين عن ذلك التهجير الجماعي لأهالي المدينةالمنورة.... كان جسده واهن يتلكأ في تمايل خفي، تحت شمس الظهيرة... وهو يتخطى شوارع المدينة نحو حافتها للوصول إلى العصملي.... يستدير مشيحا بوجهه عن المارة المقيمين والزوار.. ناحية الغرب وبالتحديد إلى محطة سكة العنبرية.. إصابة غيظ.. وقف أمامها، كصمت التماثيل لوجودها.. والتي بسببها مزقت النسيج الاجتماعي للمدينة عبر قطارها.. واعدا نفسه بغض الطرف.. لكن وعده تبخر ما بعد ساعة من الغبن الدفين والذي يلمحه في وجه جده كلما ذكر فخري في استبداده.. أحس بجسده الواهن ماعدا قادر على حمله.. وانه يتضاءل التعب... ويذرف دموعه الباطنية في صمت: شكرا، يا جدي لأنك أهديتني كل عقدك النفسية ورحلت...! كانت لفحات أشعة الشمس تصفع وجهه كما تعبث بخلايا دماغه... رأى أشجار النخيل المغروسة في الرصيف الفاصل، تهيج تارة.. وتتمايل أخرى، كأمواج لظى وسراب، العرق أخذ طريقه من رقبته إلى قفاه، لمح من بعيد شجرة، أسرع ليستظل بظلها، بينما كان النسيم يقترب من أنفه لينعشه، ظل فكره يحوم حول تهجير أقاربه من فعلت فخري المستبد.. فراح يتذكر بعضاً منها وهو طفل.. عندما شاهدهم لأول مرة في بيت جده يتبادلون الأحاديث عن خزعبلات المستبد فخري باشا وتسلطه البائد.. ظل يعانق جسده الغائب.. وصوت يحتضن صداه بلهفة صمت السنوات العجاف..افترش ذراع حلمه بلهفة طفل..وارتباك تلميذ مبتدئ ما يزال يتهجى نبضه في السطر الأول للقراءة.. يتسلق قامته السمراء فيرتفع صوته بإصرار: هل أقاربي المشردين اصبحو غرباء؟ حيث كانوا يهاجرون عبر «البابور» فالوالد في واد والولد في واد.. الأخ في بلد، والأخت في بلد آخر، فالقطار كفيل بأن يُهجِّر الأسرة كاملة إلى برِّ الأمان، وإن شِئتَ قلت إلى بحر الأمان، فالأمر أكبر من مجرد عقدة نفسية، يمكن أن يكون شيء من غيض..، شيء من حقد أو ازدراء. عرف مصدرها دون أن يفهم تفاصيلها.. لأجل ذلك قفزت إلى رأسه بسرعة جملة عصملية من غيمة سوداء، هزت بدنه «لابد من ارتكاب خيانات لتبقى المدينة واحة عثمانية»... أزعجته هذه الجملة لصقت بذهنه.. عاوده الغيظ مرّة أخرى، ولكنّه غيظ مقرون بالإصرار في الذهاب إلى الرجل العصملي..« لا بدّ أن يعرف السر.. لماذا التهجير الجماعي؟.. لمَ يستطيع أزحتها من فكره! فجأة وبعد أن قطع نصف المسافة، التفت إليه سائق تكسي..يبدو من ملامح وجهه يقارب على سن الستون عاماً، مداعباً بكلماته الرائقة: هل تشعر بالحر؟!!! لم يتمالك نفسه فانفجر بالشتائم في وجه السائق، وهو في ذلك الشعور الغاضب، استغرب السائق منه.. أحس بأنه رجل يعاني من ضيق يتسع صدره.. لم يعلم غضبه.. وحال أن لا يسأله عن ذلك..فقرر أن يوصله إلى مبتغاة، والغريب، الطريف في الأمر، بعد صعوده التاكسي.. اكتشف أن جهاز التكييف عطلان.. فاضطرب السائق لردة فعله، فقام بفتح النوافذ.. ليهب نسيم الظهيرة الصيفي حارقا بطعم الشواء... أما هو فتأكد له انه الحالم الذي ارتدى ساعات الصحو.. وان الساعة الخامسة والعشرون التي دقت عقارب المستحيل ومنحته قمرا يدور في الاتجاه المعاكس، كي يختاروا نفيه إلى بلد لم تطأ إقدام فخري وجنوده...وان يستقبلها بفرح طفولي.. في ابتهاج بتجاوبه الهادئ مع حبسه الجديد..