لم تتسع نفسه لكل ذلك الفرح الطفولي الذي تغشاه منذ أن امتلك الكرسي الثمين النادر، شاركته زوجته المبتهجة لابتهاجه الفرح، وتقافز أطفاله حول الكرسي ينشدون قصيدة افعمته بكل نشوة تمناها في ذلك اليوم. بدت زوجته رائعة وهي تجلس على الكرسي، مدّ نظرة صامتة إليها وكأنه اكتشف فيها شيئاً جديداً وبعد أن قامت من الكرسي تناوب الأطفال الجلوس عليه، وبدأ الشجار والنزاع بينهم، أيهم يجلس أطول وقت ممكن. في بادئ الأمر نهرهم بصوته الأجش، فتفرق جمعهم وتقرفصت أصواتهم، ولما خلا له المكان بسط جسده على الكرسي وراح يفتعل الانسجام ويتمنى الأماني. في ليلة ساكنة قاربته زوجته وأوحت إليه بصوت ذليل: الكرسي سيتلف إذا لم نعهد له مكاناً خاصاً يحميه من الأعين قبل الأيدي. التفت نحوها وسهم واجما للحظات، رمى بعدها بثقل رأسه إلى الفراش وغط في نوم عميق. وفي صباح اليوم التالي أعلن بصوت مهيب أن الكرسي له وحده لا شريك له به، وأن من يجرؤ على النظر إليه أو لمسه فلن يسلم من عقابه. بهجت زوجت بهذا القرار الذي سيعتقها من ملازمة الكرسي والحفاظ عليه من كل يد عابثة. وهكذا ظل الرجل مهاباً في بيته وأكثر هيبة إذا جلس على الكرسي في وسط أطفاله يرمقونه بحذر ووجل وهو يفتعل - كعادته - الانسجام والهيام. وفي احدى جلساته أمال برأسه أسفل الكرسي فهاله ذلك الصدأ الذي بدأ ينخر الكرسي، وبدا له أن طول مكث الكرسي، سيجعله لقمة هنيئة لتراب الأرض. قرر رفع الكرسي على منصة خشبية في قلب البيت، وقرر أيضاً منع نفسه من الجلوس عليه أو الاقتراب منه حفاظاً عليه من التلف. فرحت زوجته بهذا القرار الذي سيعتقها من ملازمة نظافة الكرسي والحفاظ عليه. * * * وبعد وقت طويل أخذت الألسنة تتقاذف الكلمات الموجعة، كانت كلمات قاتلة لم يصمد جسده المهتز المتوتر أمامها، كان يردد كلماتهم معهم كثيراً وأحياناً دون وعي منه. فقائل: الكرسي أكبر معلم من معالم مدينتنا. وقائل: لا يمكن للكرسي أن يكون حكراً على شخص واحد.. وقائل: الكرسي الآن ملك للجميع.. تعددت الأقوال وكثرت روائح أفواههم وربما كان بعضها مخيفاً كريهاً. ولما أحس بمكرهم ذهب إلى زوجته وخفة ترهق عقله وقلبه. قال لها بصوت مسكين: ماذا يمكن أن نعمل؟ لا أريدهم أن يأخذوه مني.. تطلع في وجهها ليرى مدى تعاطفها مع كلماته ولما أحس أن عينيها فترتا أكمل: لن أحيا إذا فرطت في كرسي أجدادي. قالت بصوت خافت: أنت الآن في أشد الحاجة إلى المال، أعرضه عليهم بثمن عال. اهتز بدنه، وارتعشت شفتاه لهذا الرأي الأرعن، طاف حول الكرسي وكلمات مبعثرة تتساقط من فمه دون أن يحس بها أو يعي معانيها. تعالت الأصوات المطالبة بوضع الكرسي في وضع ميدان المدينة كرمز تراثي، فيما استطاع هو أن يتلذذ بفقره وعوزه وعزلته مادامت عيناه تتلذذان برؤية تحفته وإرثه الغالي، وهكذا ظل إلى أن مات دون أن يفرط بكرسيه. بعد موته نسجت حوله حكايات وأقوال صدقها أناس وأنكرها آخرون، ولم تعرف الحقيقة الكاملة، فقائل يدعي أنه رآه بعينه يهذي بكلمات لا تصدر عن عاقل، وآخر يقسم أنه قال له قبل موته بيومين أنه سيضع حداً لحياته خوفاً من أن يعيش يوماً واحداً وقد سلبوا منه الكرسي وأقوال أخرى لم تصمد كثيراً بعد موته. * * * جلس حفيده على الكرسي بين أبنائه، و،راح يقص عليهم سيرة جدهم الذي عاش ومات في سبيل الحفاظ على هذا الكرسي، كانت لهجته متقلبة غير مفهومة وأحياناً عنيدة، فتارة تخبو لهجته حتى يظن أبناؤه أن والدهم يكاد يذوب تعاطفاً مع جدهم، وتارة تعلو لهجته وتتضخم فيميل الأبناء برؤوسهم بعيداً عن وجه أبيهم وكأنهم اقترفوا اثماً. أما إذا استقرت لهجة أبيهم وبدأت أكثر هدوءاً وانسياباً فإن العجب يستأنس بعقولهم من شدة صبر جدهم وقوة تحمله. وكيف أنه رفض المال الذي كان بحاجة إليه معلياً عليه سبيل حفاظه على هذا الكرسي. كان والدهم يراقب بعين ذئب ذلك الاعجاب الذي ظفر من أعين أبنائه، اعتدل في جلسته وكأنه يتهيأ لكلمة جديدة، طاف برأسه كاملاً بين أعين أبنائه، قرب رأسه إلى وسطهم تقريباً وقال بلهجة خافتة متشككة. يجب أن نتفهم حالته النفسية في ذلك الوقت.. رفع رأسه بعد هذه الكلمات ليرى مدى استجابتهم لقوله، أكمل وكأنه يكلم نفسه: والناس لازالوا يتذكرون هذا الكرسي ولن يدعونا حتى يأخذوه وينصبوه في وسط المدينة. فز الابن الصغير من مكانه القصي، وتصدرت كلماته الهوجاء وسط المجلس وهو يقول: هذا عظيم يا أبي.. إنه رمز حقيقي لنا ولبلادنا ويجب أن نفعل ذلك.. أدار الأب رأسه، ركز بصره نحو بقية ابنائه الذين ابتلعوا ألسنتهم وصمتوا. أكمل الابن الصغير وكأنه يتذكر أمراً جديداً. وهكذا نكون قد حافظنا على أمانة جدنا.. تعمر وجه الأب وقال بغضب سافر: أصمت. صمت الجميع، وبعد برهة مشحونة بنظراتهم المبعثرة ما بين فم والدهم وبين كلمات أخيهم المتهورة، أدار الأب رأسه نحو الابن الصغير. وقال بلهجة صارمة: يجب أن نحرق الكرسي. علت همهمات كهديل حمام لا يعرف مصدرها بالتحديد. أكمل: إذا أطعناهم، وجعلناهم ينصبونه في وسط المدينة لم يكن رمزاً إلا على جهل جدكم وسيعيروننا بجهله ما حيينا، لأنهم لن ينسوا الماضي مادام هذا الكرسي ينتصب بين عيونهم. طاف برأسه مستجلباً كلمة من أحدهم، فلما عدمها، أكمل وكأنه يهمس: صباح الغد سنجمع حطباً ونحرقه هنا، دون أن يشعر أحد حولنا صمت الجميع، وكلماته تخرج من جنوبهم دون أن يرفعوا رؤوسهم. ومع إشراق شمس النهار الجديدة كانت سحب من بخور عبق تملأ صدر سماء المدينة. تجمع الناس حول البيت الذي اشتعل برائحة البخور الزكي وكل عام يمر، يعلو البيت شيئاً فشيئاً إلى أن انتصب رمزاً في وسط المدينة.