نورا محمد بوغيث النجوم متلألئة في وسط السماء، تنير الطريق الصامت، بعد أن استتر القمر الليلة بلون مغبر باهت، تسير هي، تلك الكتلة السوداء خلسة، رفيقها الهدوء، يحميها الظلام، لا يلحظها أحد، خاصة بعد استنادها على جانب الصخرة المتدثر بالسواد، لكن هل هي من استندت على الصخرة؟ أم الصخرة من جثمت على أنفاسها؟! دموعها تنهمر غزيرة لا صوت لها، تحاول معاودة تنفسها الطبيعي، تأخذ شهيقا طويلاً، مازال متقطعا ذلك الشهيق، تحاول أخذ شهيق آخر مستطعمة خلاله، زفرة الأسماك المختبئة في ظلمات البحر هائج الأمواج، يتشبع أنفها بملوحة الرمال المتخلخلة لأصابع قدميها الحافيتين، هاتان القدمان اللتان رجفتا يوم عرسها.. العرس الذي رقص فيه الجميع حتى هي، رقصت خوفا وألما، كيف لا؟ وهي تزف إلى «نوخذة»(1) الشباب الطاعن! الشيخ سلمان ذلك الذي سمعت عنه من بنات جيلها، فالحوائط الطينية سريعة جداً في نقل الأخبار، نعم إنه رجل ذو شأن بين الرجال.. وذو قرف بين النساء! جفاء البحر تجاه الغواصين لا يقارن أبداً بجفائه تجاه نسائه! وهي على الكوشة تسمع زغاريد النساء حولها، ولا أحد يسمع نشيج قلبها ذهبها البراق يخنق عنقها الطويل، يقتل أنفاسها النقية، صارت تتحرك بصعوبة أكثر منذ تركت عرش العرس وانتقلت مع زوجها إلى سجن الزوجية، في الغرفة هناك، على الباب تستند، قدماها المصطبغتان بلون الحنّاء ثقيلتان بالحركة، لم تستطع أن تسرع عندما أمرها بالاقتراب، بل زاد شللها، ولأن الصبر مساحته صغيرة في قلبه، أمسك ذراعها يجرها إليه على عجل، رائحة البخور التي تفوح منه جزمت أنه اكتسبها من زوجته الأولى وهي تبخر «دشداشته»(2)، تزينه للقاء العروس التي خطبتها له، قد ملأت أنفها. من قال انها غيرة أو حسد؟! تلك الكلمات.. نعم أمها من قالت: - وستكونين وتكونين.. وستحسدك بنات «الفريج»(3).. كلا بل بنات المنطقة كلها! وهكذا كان كما توقعت هي، فظاً غليظاً، ولم تقل عنه زوجته الأولى دناءة، بل زادت عليه، فقد قدرت بخبثها أن تضمها إلى قائمة خادمات المنزل الكبير كما يسمونه، وزوجته الثانية استطاعت أن تلعب دور العاشقة المولعة بشغف «النوخذة» حتى لا يطالها شره ويكف أذى الأولى عنها!، أما هي الثالثة التي ضاعت بين تلك التيارات.. وفي أقل محاولة تمرد لها تسمع بكاء الدنيئة الكاذب وهي تشكوها عند «النوخذة»: -.. أم تحسب نفسها سيدة البيت؟ أرجوك ضع لها حداً إنها لا تسمع مني! يرد غاضباً: - لا أحد سواي سيد البيت. وبعد ذلك التزييف.. الكبت يزيد الظلم يزيد.. وألمها يزيد ويزيد «نعم كنت عنيدة.. كنت طفلة، كنت صادقة أكثر مما ينبغي، كان يبحث عن الخلف وأنا أبحث عن الراحة والأمان».. هكذا قالت وهي تحاكي البحر.. أكملت: «لم يكن يهمني المنزل الكبير، ولا «البيزات»(4) التي تملأ «التجوري»(5)، طالما حريتي سلبت وكرامتي مسحت ب «الليوان»(6) البراق.. لقد جُرحت بما فيه الكفاية». بهدوء تقدمت أربع خطوات حتى بلل زبد البحر طرف عباءتها، الهواء داعب دموعها، وهي تسمع صدى عويل النساء الذي شهده المكان، ضمت يديها إلى جنبها قائلة: «شكراً أيها البحر.. لقد احتضنت «النوخذة» سلمان بين أمواجك ولم يعد ب «القفّال»(7) أفلت راجعة إلى ذلك المنزل تمسح دموع فرح بعد شبعها من أصوات الباكيات ترسم ابتسامة الانتصار، متأكدة من أنها ستكون سيدة نفسها، وسيدة المنزل الكبير! 1.النوخذة قبطان السفينة. 2. الدشداشة: اللباس الرسمي للرجال في الكويت والخليج. 3. الفريج: الحي أو الحارة. 4.البيزات: تطلق على الأموال في الكويت قديما لأن العملة الرسمية آنذاك كانت البيزة وجمعها بيزات. 5.التجوري: الخزنة الحديدية التي تحفظ فيها الأشياء الثمينة. 6.الليوان: الممرات المطلة على باحة المنزل الداخلية في المنازل العربية القديمة. 7.القفال: وقت رجوع سفن الغوص إلى الكويت.