يفصح زهر اشتغالاتها الأدبية بعبق مختلف الإدهاشات بين شعر وقصة ورواية وصحافة وتصوير فوتوغرافي، تحقق اختلافها بالارتكاز على بنى ثقافية راسخة عبر مسافات فضاء مكتنز بالبوح الأجمل، حضورها واثق عبر منتج فعلي بين هذه الأجناس جميعا، وفي الوقت ذاته يبدو جلياً في منجزها تعالق الفنون في مختلف تجلياتها، بمهارة مدعمة بمعرفة واطلاع، إنها الأديبة هبة بوخمسين، اسم مميز في المشهد الثقافي، تمتلك رصيدا إبداعيا في شتى الحقول الأدبية آنفة الذكر.. التقتها وكالة أنباء الشعر وكان هذا الحوار: • نحن في زمن الرواية.. قول يردده الكثيرون في الوسط الثقافي، برأيك هل هو إلغاء ضمني لحضور أجناس متسيدة، أم هو الحقيقة بعينها؟ - من متابعتي شخصياً، أرى أن كل الأجناس الأدبية لها حضورها على الساحة الثقافية، أما أن يقال ووفقاً لحسابات السوق والمبيعات بأنه زمن الرواية، فإن الارتكاز هنا ليس على قيمة وأهمية العمل الإبداعي بقدر ما للموجة من تأثير، قد يكون النتاج الروائي غزيراً كماً وليس نوعاً، وإن كان هناك بعض مستسهلي السرد فأيضاً هناك بعض المتطفلين على الشعر، ولكل جنس أدبي متابعوه ومحبوه، غير أن دور النشر صارت مؤخراً تؤثر طبع الروايات تحديداً وتتجنب الشعر والقصص القصيرة والنصوص لأن الترويج للرواية أيسر بالنسبة إليها. حديث البوكر • البوكر العربية جائزة تشغل الكثير من الروائيين، بيد انها في الوقت ذاته تشهد انتقادات كثيرة تتهمها بالمحسوبية والشللية، ما تعليقك؟ - بداية دعني أخبرك بأنها جائزة لا تشغل الروائيين إلى هذا الحد. وعموماً، فقد تابعت وقرأت الكثير مما دار حول جائزة البوكر بنسختها العربية، فمن المعيب حقاً أن يتم تناول جائزة بهذا المستوى والأهمية عالمياً بتلك الركاكة والمناوشات كما حصل في النسخة العربية، نعم سأخرج بهكذا انطباع حول تلك الجائزة بنسختها العربية المشوّهة لما تابعته من تصريحات ومشاحنات وعراك مخجل بين بعض أعضاء لجنة التحكيم، وكذلك بين محكمين وبعض المرشحين والتي تصدرت الصفحات الثقافية في مختلف الصحف العربية والمواقع الإلكترونية. كما أنني وبقراءة بعض العناوين المرشحة في الدورات السابقة فقد شعرت بالأسف فعلاً إذ لم تكن بالمستوى المتوقع. في النهاية فإن هذه الجوائز تعبر عن رأي وذائقة لجانها. • تقول الشاعرة سعدية مفرح في محاضرة لها: المعاني الكبرى لا تنتج بالضرورة إبداعا كبيرا.. كيف تقرأ هبة بوخمسين هذا القول؟ - الصديقة الشاعرة سعدية مفرح ضمنت ورقتها حول المواطنة والإبداع تلك العبارة الحقيقية، فالحدث مهما كان جليلاً وعظيماً في تفاصيله وآثاره، فمن يخوضه كتجربة لن يخرج بالضرورة بعمل أدبي أو فني يضع بصمته على خارطة الإبداع والنتاج الخالد. فحواه وإن كانت مزلزلة فإنها تستوجب أن يغذى العمل الأدبي أو الفني على حد سواء بروح استثنائية حاضرة حين التجلي وتظل حية حتى تصل للمتلقي، لا تقاس تلك الأمور حسابياً، لكنها لحظات مشرقة في العمل الإبداعي تصنع عظمته وهي نادرة الحدوث فعلاً. • لعل ما يتصدر المشهد الروائي العربي في الوقت الراهن هو الأعمال التي تشتغل على ثيمة الجسد أو التابوات بشكل عام، هل فقدت العناصر الحياتية الأخرى قدرتها في كسب ود القاريء؟ كثيراً ما يطرح هذا السؤال ، وفي المقابل لا أرى أياً من الأعمال التجارية التي تتناول تلك الموضوعات بشكل فج قد اقتحمت المشهد الثقافي الأدبي ووقفت في صدارته وشغلت نقاده وكتابه. قد يطل علينا عمل او اثنان بين وقت وآخر، ويأخذ مساحة لا يمنحها له سوى الصفحات الثقافية التي لا تعي مسؤوليتها وتسعى فقط لملء صفحاتها، حتى وإن كتبت هذا العمل «سيئ» ولا يستحق القراءة فإنها في الحقيقة تروج له. وتلك إصدارات ستصل إلى مجموعة كبيرة من القراء ولا شك، فأصحابها يعرفون كيف يسوقون لأنفسهم، ويقومون بصناعة نجاح مزيف. غير أنني في المقابل أرى الكثير من الأعمال القيّمة في ما تتناوله من موضوعات وفي تقنية تقديمها. القارئ الواعي لن يبحث عن المحظورات، وهو أيضاً لن يحتجب عن العمل الحقيقي الذي يتناولها بوعي ونضج. أنا مع تناول الجسد وتحطيم التابوات ولكن بما يخدم العمل ويضيف إلى القارئ ويفتح له نوافذ السؤال. • يصرّح الكتاب العاملون في حقل الإعلام أن مزاولة هذه المهنة تلغي توهج الأديب داخلهم، فما قولك خصوصا أنك عملت سابقا في مجلة أصدرتها بالتعاون مع والدتك؟ - العمل في حقل الإعلام، وخاصة الصحافة، يستهلك الأديب بشكل كبير. فهو لا يلغي توهجه، أبداً، لكنه وبطبيعة عمله سيؤجل سيل الإبداع في داخله ليتسنى له استثمار وقته وجهده في عمله الصحفي. خلال عملي في مجلة خاصة وبعدها حين كونت مع الأصدقاء ووالدتي مجلة ثقافية شعرت بذلك فعلا، لم تكن الكتابة الإبداعية تأخذ الصدارة والأولوية، لكن التدفق لم يتوقف، إذ فور توقف المجلة عن الإصدار شرعت بالكتابة وفي غضون أشهر معدودة أصدرت مجموعتي القصصية الثانية «ذات سكرة» التي كانت مشروعاً مؤجلاً بسبب الانشغال بالمجلة. سؤال الجدوى • لا يبدو مشوارك الكتابي شاسع المسافة زمنياً، إلا أن المدقق في تقانات أعمالك يلمس نضوجا فكريا ومعرفيا واضحا، قد يسمي البعض هذا التباين بحرق المراحل.. فماذا تسميه هبة بوخمسين؟ - يتأتى النضج بالقراءة والتجربة والتفاعل مع الآخر والتواصل الدائم. والكتابة تجيء نتيجة لكل ذلك، وداومت خلال السنوات الماضية، وحتى إن ثار في داخلي التساؤل أحياناً عن الجدوى، على أن أظل أقرأ وأكتب وأنظم وأشترك في النشاطات بشكل مستمر، تلك هي حياتي ولا تصور لي لكيفية العيش من دون هذا الاشتغال الرفيع. • فضلا عن اشتغالاتك الكتابية، لك اعتناء كبير في مجال التصوير، ما مدى استفادتك في توظيف مهارة التصوير في الفعل الروائي والقصصي ضمن وعي أننا في عالم الصورة؟ - دراستي للتصوير وكذلك للإنتاج التلفزيوني خلال دراستي الجامعية أثرت فيّ وفي كتابتي كثيراً. فالمشاهد والنقلات حين السرد تشعر القارئ بتتبع فيلم سينمائي. الحركة عبر الكلمات كالصورة على الشاشة، إضافة إلى أهمية الوعي بالتفاصيل وتحري الدقة في ما يسرد. • يرى البعض أن تفرد الأدب المبدع يتحقق في عزلة تقرأ الاشياء عن بعد، ويرى أخرون أن التفرد الإبداعي لا يتحقق إلا باندماج كلي مع المجتمع.. ما بين هذين أين تقف هبة بوخمسين رأياً وتصوراً؟ - لست مع الانزواء في ركن بعيد عن بقية المتناقضات. فالكاتب ابن المجتمع والشارع الحيّ والنبضات الواثبة نحو الحياة ممتطية تجربتها، يحتاج للتفاعل والاقتراب أحياناً، وربما في بعض الأحيان للتعايش ولن أقول الاندماج الكلي لأنه يقتضي بالضرورة تنازلات صعبة على المبدع. وفي مقابل كل ذلك سيحتاج الكاتب أيضاً إلى عزلته الخاصة وصمته كي يخرج بتشخيصه وانطباعه الخاص حول كل ما يقرأ وما يلمح عن بعد يتيح رؤية واضحة ورزينة للأمور، أو ربما تمنحه شاسع المجال ليشطح بجنون مخيلته ويبني عوالم كما يشتهي. أنا أحيا في العالمين. قوة التغيير • في مقالك الذي نشرته القبس في ضوء الحملة التي أعلنتها ضد رقيب معرض الكتاب الدولي في الكويت تقولين «أرى الكويت اليوم بوجه مختلف لا استطاعة لي على أن أتعرف الى ملامحه»، ما هي الملامح التي طمسها الرقيب؟ وكيف؟ - حين تخضع النهضة لسطوة العرف والمشوه من التقاليد، فكيف لك أن تتعرف على الوجه الزاهي الذي أحببت. تظل تتمسك بقوة التغيير، ووجوب الانفتاح، وتنادي بنشر قيم الوعي بأهمية الاطلاع وحرية الاختيار، لتكون ثقافة الشعب كفيلة بجعله يتمتع بمساحة الرأي والتعبير، لا أن يغذى بأفكار تقيّد قدرته على الفهم وتحديد ما يناسبه. الكويت كانت منارة للثقافة والفنون والأدب في محيطها، ومؤخراً صرنا نستذكر فقط ما كانت عليه، في حين تعمه جماعات كثيرة بالمشاحنات والمصالح الضيقة. • هل استطاع الكاتب العربي أن يستوعب يومه السريالي ليترجمه إلى موضوعات روائية أو قصصية ترقى إلى مستوى إدهاش الواقع؟ - للكاتب عموماً وللكاتب العربي خصوصاً - إذ نتكلم هنا عنه تحديداً - فائض من الموضوعات والأحداث والصور التي تثير فيه حكايات شتى. من قراءاتي ومتابعتي وقفت على تنوع كبير في المطروح من قضايا في مختلف الإصدارات، وكذلك الكاتب العربي وبلغته الحية الطيعة هذه استطاع أن يكتب بصدق شفيف، وبعض النصوص تصلك روح كاتبها بل وتحيا بين يديك أرواح شخوصه من فرط حقيقية ما يكتب وتمكنه من نقل الانفعالات لك. بعض الكتاب قادر على إبراز أدق الأبعاد النفسية لأبطال حكاياته. هناك كتاب نجحوا في كل ذلك، والساحة الثقافية تزهو بهم، وهنا لا شأن لنا بمستسهلي الكتابة والمتطفلين عليها. قديم وجديد • العلاقة بين القديم والجديد علاقة إشكالية.. الى أي مدى استطاع أديبنا العربي أن يؤسس لعلاقة تواصليه مع هذا الشأن، أم القطيعة سمة النص الناجح بالضرورة؟ في الواقع؛ هذا سؤال شعري أكثر من كونه صالحا لوسم الفعل السردي العربي عموما. أنت تدرك أن السرد - بشكله المعاصر و النهائي - لا تاريخ «حقيقياً» له في التراث العربي شأنه شأن الكثير من الفنون الإبداعية المستوردة كالتشكيل والمسرح وما إلى ذلك. وأعتقد أن الإشكالية التصادمية بين القديم والجديد في الثقافة العربية تتضح أوضح ما يكون عبر الشعر. • ما زالت المؤسسة الثقافية العربية ترفع شعار دعم الثقافة، وما زال المثقفون يتهمونها بالتقصير والشعاراتية، أين يكمن الخلل في هذه العلاقة غير المستقرة؟ - المؤسسة الثقافية حين تكون حكومية فهي تخضع للبيروقراطية كأي جهة حكومية أخرى من قبيل: معاملات طويلة، رقابة تشوه الفعل الثقافي وتؤخره، وتجدها تعمل كأي دائرة حكومية بأرواح متكدسة في المكاتب لا تجد غالباً ما تفعله وتنتجه، وأموال مهدورة في غير مكانها الصحيح. إلا ان مسك زمام أمورها مثقفون أكفاء بخطط واستراتيجيات واضحة، وتوافرت لهم ميزانيات تتناسب وحجم النشاط الثقافي اللائق بأهميته، وتوظفت كل تلك الجهود في استثمار بعيد المدى لرفع وعي المجتمع عموماً، وخدمة المبدعين في مختلف المجالات الفنية والأدبية والموسيقية والتشكيلية. لن أستطيع التعقيب على ما يجري في دول أخرى، لكن في الكويت تعاني تلك المؤسسات من السبات والتراجع نتيجة لذلك. وفي مقابل ذلك هناك بعض المجاميع الثقافية والأدبية بغير إمكانات تحاول تحريك الراكد دون طريق واضحة، وكذلك هناك المؤسسة الخاصة التجارية التي تسعى أيضاً لإثراء المشهد الثقافي ولكنها تخضع لفكر وتوجه أصحابها في النهاية وتخدم اهتماماتهم.