حتى أغالب فجيعتي في مواجهة زلزال موته الذي لم يستغرق سوى ساعات – لم تزد عن ستة عشر ساعة – من نوبته القلبية، إلى استقرار حالته، إلى وفاته.. أخذت أتردد طوال ليالي العزاء الثلاث على تلك الساحة الضخمة، التي هيأها صديقه وصهره الحميم الشيخ صالح كامل في مواجهة منزله لاستقبال مئات المئات من المعزين.. لألتمس في سماع قراءة المقرئين.. "عزاءً"، وفي زحام المعزين، وبين طوابيرهم.. "رجاءً" في سلوى تهوِّن عليَّ وسط زحامهم ما كنت أعانيه من كمد نبأ وفاته المروع، الذي فشل فهمي وفشلت قدراتي عن استيعابه، وفهم حدوثه على هذا النحو العاصف.. الذي جرى به، لأجد أقدامي تحملني مع أصوات المقرئين المتهدجة وهم يرتلون دعاء "تختيم" آخر ليالي العزاء.. إلى أصدقائه وأبنائه وأحبابه ممن اصطفوا لتقبل العزاء فيه، لا.. لأعزيهم للمرة الثانية أو الثالثة، ولكن لأقف بينهم وأتماسك بهم ومعهم.. في مواجهة لحظات مفزعة قادمة، لا تقل في ترويعها عن لحظات الموت والفقد نفسها.. إن لم تكن أشد وطأة. فبعد ساعة.. أو تكاد، سيقوم بعض من هؤلاء المتحلقين حول ساحة العزاء.. بطي "السجاجيد"، ورفع مقاعد الجلوس، وإطفاء الثريات.. فيتفرق الحاضرون، ويحل الصمت والظلام والفراغ، ويفغر "النسيان" جوفه.. ليلتهم كل شيء!! لست أدري.. لِمَ لاحت وألحت عليَّ تلك الخواطر آنذاك..؟ ولكنني همست شاكياً منها.. موجعاً بها ل "ثلاثتهم": لصهره الحميم (صالح كامل)، ولصديقه العزيز (د. عبدالعزيز خوجة)، ولفلذة كبده (ياسر).. قائلاً والدموع تملؤني كما تملأهم: أهكذا.. ينتهي كل شيء..؟ ما أعجبك.. يا دنيانا! ما أعجبك.. يا أوهامنا.. يا أحلامنا.. يا أمانينا!! لكان الموت فيك.. هو الحقيقة الأبدية الخالدة، وما عداه حلم وسراب..!! * * * لقد كانت فجيعتي في تلقي نبأ وفاة أخي الصديق العزيز الدكتور محمد عبده يماني.. العاصف، فوق قدرتي واحتمالي، فقد كنت قبيلها بليال قليلة.. أتقاسم معه إحدى موائد قاعة فندق "هيلتون" جدة الكبرى (مع صحبة من الأصدقاء والزملاء من بينهم الأستاذ بكري صالح شطا، والأستاذ سعود دهلوي، والدكتور أحمد اليوسف) انتظاراً لبدء فعاليات (حفل تقديم) كتاب الدكتور فهد العرابي الحارثي الجديد (المعرفة قوة والحرية أيضاً)، والتوقيع على نسخه الأولى في "جدة"، بعد أن جرى تدشينه في كل من "بيروت" ف "الرياض".. فقد كنت أحد المتحدثين في تلك الليلة عن (الكتاب) بعد أن خصني الدكتور فهد ب "الحديث" عن كتابه، وتقديمه لجمهرة حضور تلك الليلة.. وعموم القراء خارجها بعد نشر كلمتي عنه في صحافتنا، فلم تفت الدكتور محمد عبده "القفشة" وهي تمر من أمامه، وقد كان أحد أساتذتها البارعين دون شك.. عندما قال ب "عاميته" أو "مكاويته" الجميلة: (بس إن شاء الله.. ما تنزل على الرجَّال.. زي عوايدك)!! ضحكت.. وضحك بعض من سمع تعليق معاليه الضاحك والغامز، لأقول له: اطمئن.. ف "الكتاب" يستحق الإشادة به والقراءة له، بل والتقدير لشجاعة وجرأة كاتبه في نقد أحوال الأمة وركائز تخلفها، وفي توصيفه لمخرجها ب "المعرفة" و"الحرية" وليس بغيرهما.. إن كانت حقاً تريد اللحاق بالقرن الواحد والعشرين أو الانتساب إليه في الأقل.. فقال على طريقته نفسها: (إذاً.. جات سليمة)..؟ قلت: نعم.. فلا نزول عليه كما توقعت أو حذرت، بل صعوداً به، وبمحتوى الكتاب ومستواه.. إنصافاً وعدلاً.. وليس مجاملة..! عندما عدت إلى المائدة بعد أن انتهيت من إلقاء كلمتي.. لنستمع مع بقية الأصدقاء والزملاء إلى إضاءات الدكتور فهد حول كتابه، ومعاناته في تجميع وحصر مادته طوال خمس أو سبع سنوات.. كان الدكتور اليماني يسألني: وما رأيك في القصص القصيرة التي بعثت بها إليك على (الفاكس)..؟ قلت: لقد جاهدت في الوصول إلى هاتف مكتبك الثابت (الدكتور اليماني لم يكن يحمل جوالاً) فلم أفلح - لازدحامه وانشغاله الدائم بعشرات المكالمات -.. حتى أخبرك برأيي الذي لم يكن يختلف عن رأي أستاذ الرواية العربية المعاصر الأديب الفنان الأستاذ الطيب الصالح.. عندما استشاره صديقه الشاعر والأديب الدكتور غازي القصيبي في الفصول الأولى من روايته (شقة الحرية)، وإن كان يستحسن له أن يستمر في تكملتها أم ينصرف عنها ويعود إلى عالمه الشعري.. فقال له: بل.. تستمر وسر على بركة الله. فلم أقرأ محاولة روائية أولى كتبت بمثل هذا الجمال، وقد كان الطيب الصالح صادقاً فيما قاله في حينه.. وفيما بعد، فليس هناك أجمل من "شقة الحرية" بين روايات الدكتور غازي قاطبة. ضحك الدكتور اليماني وهو يقول بطريقته "المكاوية" الضاحكة: (بلاش فَرَاخَه..!! أتريد أن تقول أن رأيك في قصصي القصيرة هذه.. كرأي الطيب الصالح في رواية غازي القصيبي الأولى (شقة الحرية)..؟ قلت له: نعم.. مع الفارق، بين رأي الطيب الصالح المشهود له روائياً.. ورأيي كقارئ وكاتب قصة قصيرة انقطع عن كتابتها منذ سنين طويلة إلا أنها ماتزال تتلبسه روحها في بعض ما يكتب. ف "الكتابة" الجيدة أياً كانت (مقالة أو قصة أو رواية) لا تخطئها عيون الكتاب والأدباء والشعراء الحقيقيين.. بل والصحفيون من ذوي الملكات الأدبية..!! ابتسم الدكتور اليماني.. ابتسامته المعروفة.. التي يختلط فيها الذكاء ب "الدهاء" مع الحميمية إن أرادها، وهو يقول: (ما في فايدة)..!! لأقول له: بل ويمكن تقديمها في سهرات تلفزيونية.. إذا وجدت كاتب "سيناريو" يعرف بيئتها المحلية، ويعشق أجواءها. عندما انتهت تلك الليلة الجميلة بكل مفرداتها، وهممت بوداعه.. لم يكن يخطر ببالي أنه سيموت بعد ليال منها، فقد كانت فكرة الموت نفسها.. أبعد ما تكون عن خواطرنا جملة وتفصيلاً في تلك السويعات. فمن أين لها أن تأتي.. وسط حضوره الطاغي وحيويته ومرحه المخلوط دائماً بذكائه ودهائه..؟! [لقد كانت مصادفة بحتة.. أن يقوم أحد مصوري صحيفة الوطن.. بتسجيل لقطة فوتوغرافية تجمعني به في تلك السويعات، لتكون آخر صورة للدكتور اليماني.. في الحياة العامة]. * * * في طريق العودة من ساحة العزاء.. كنت ما أزال أحمل حيرتي وحزني وأسئلتي التي لم تجد لها جواباً كافياً أو شافياً.. بينما آخر صورة رأيته فيها وعليها ماتزال تشغل عقلي ووجداني، لتشق ضبابها.. "صورة" منزله: البسيط والجميل في حي الحمراء.. بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع، وقد تكدست عند مدخل قاعة استقباله عشرات عشرات الأحذية المتواضعة التي تركها أصحابها عند عتبة القاعة.. ليخفوا سراعاً إلى داخلها، حتى يجد كل واحد منهم لنفسه مكاناً قريباً من "الدكتور".. وسط كثرتهم وتزاحمهم، فكل واحد منهم.. صاحب حاجة، أو طالب وساطة أو مساعدة.. أو خطاب تزكية - في الأدنى - يتوجه به إلى إدارة أو رئيس أو مسؤول أو وزير ليقضي حاجته أو مصلحته. لقد رأيت ذلك بعيني مصادفة.. عندما ضرب لي موعداً بمنزله ذات جمعة، فذهبت – بعد الصلاة – مباشرة للقائه.. فهالني ما رأيت من زحام لم أكن أتوقعه، وإلى الحد الذي جعلني أرجوه حياءً – وقد سعى للانفراد بي.. أو حشري إلى جانبه على وجه الدقة.. حتى نتحدث – أن نؤجل موعدنا إلى يوم آخر.. وإلى ساعة أخرى غير هذه الساعة، التي بدا لي – آنذاك – كما لو أنه خصصها لأصحاب الحاجات والقضايا والمشاكل من الموظفين والمهنيين والدارسين وطلبة العلم.. من المواطنين والمقيمين، ومن العرب والمسلمين.. بحد سواء!! فمن سيفتح لكل هؤلاء أبواب قاعة استقباله بعد اليوم.. ومن سيستمع إلى أصواتهم الضعيفة الخافتة ليوصلها إلى أولي الأمر..؟ ومن سيساعدهم ب "وجاهته" ومكانته الأدبية والاجتماعية والدينية لدى الإدارات والمصالح والشركات والمسؤولين..؟ * * * لقد خامرني في هذا الشأن، بداية.. إحساس مبكر.. عندما أخذت ألحظ تواتر اسمه في أكثر من جمعية ومؤسسة وناد، ومعظمها إن لم يكن جميعها خيري لله تعالى.. بأن الدكتور اليماني وبعد إعفائه من الوزارة ومهامها واجتماعاتها وهواتفها التي لا تهدأ، وجد أمامه فراغاً كبيراً من الوقت.. وأن عليه ان يملؤه، فملأه.. بقلمه ومقالاته، ومحاضراته، وكتبه الدينية الوسطية الذائعة وبهذا الحضور الإنساني النبيل فيما لا أدري عدده من الجمعيات والمؤسسات وأندية فعل الخير التي ليس لها من هدف غير إشاعة الفرحة في القلوب والبسمة على الشفاه، وبهذا البيت الذي فتح قاعة استقباله.. ليؤمها من يعرف ومن لا يعرف من أصحاب الحاجات.. بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع. ثم استرجعني من ذلك الإحساس المبكر.. ما هو أبعد غوراً، وأهم تأصيلاً في بناء جوهر الشخصية الإنسانية وسلوكها: بذلاً وشحاً.. عطاءً وإمساكاً.. إيثاراً وتضحية، والمتمثل في "تواضعه" الذي ترعرع عليه، وفي"عصاميته" التي شق بها طريقه، وفي "قلته" التي عاش بها وعليها بين دروب مكة وشعابها في سنواته الأولى، وفي تلك "الصور" التي توسدت وجدانه لأولئك السابقين من الرجال الكبار بعقولهم وقلوبهم.. الذين كانوا يسعون بالخير بين الناس ول "الناس".. لتعطينا في النهاية هذا الهرم الإنساني الكبير الذي اسمه الدكتور (محمد عبده يماني)، الذي جمع المجد له أطرافه: ديناً، وعلماً، مكانة وخلقاً، وقبولاً واسعاً بين الناس.. وسلمها إليه، ليضعها عندما واتته اللحظة في خدمة الناس.. كل الناس، وفي السعي.. من أجلهم، وفي تذليل مصاعبهم.. حتى امتلأت قاعة استقباله بتلك الأعداد التي هالني كثرتها، وتعذر حتى على المقربين من أصدقائه الوصول إليه عبر هاتفه المشغول طوال الوقت، والمزدحم بعشرات عشرات مكالمات أصحاب الحاجة.. فإذا صادف أن أجابك سكرتيره في نهاية الوقت.. فستعلم بعد حين بأن الدكتور اليماني قد غادر مكتبه..!! * * * لكل هذه الحياة العريضة والثرية.. بعطائها الفكري والإنساني المتعدد، ووسطيتها الجامعة، ووطنيتها الخالصة.. التي أوجزت بعضاً منها أشد إيجاز، كان الإحساس ل "فقده" مدوياً بين أبناء الوطن والمقيمين فيه.. بمختلف طبقاتهم وأعراقهم ومذاهبهم، وكان التعبير عنه.. يتمثل في تلك الحشود التي لا يدري أحد كيف اجتمعت لوداعه في مقبرة (المعلا)، وتلك الأبدان التي تدافعت وتزاحمت لتقدم لأسرته وأصدقائه وأحبابه واجب العزاء.. حتى فاضت بهم الشوارع والطرقات. لقد فقده الجميع..! فقده طلبة العلم وشيوخهم.. وفقده أبناء الجامعات والدارسين بها والحالمين بدخولها، وفقده الأدباء والكتاب والشعراء، وفقده الصحفيون والإعلاميون، وفقده رجال الخير وفاعلوه.. وفقده أصحاب الحاجات ممن تقطعت بهم الوسائط والوسائل، فكان بحق الفقيد الكبير.. الذي قد لا يعوض. جدة/ 19 /12 /1431ه 25/11/2010م