في يوم الثلاثاء 25/11/1431ه. وبعد الساعة الحادية عشرة صباحا، دق هاتفي الجوال وإذا به الأخ حسن من منزل الدكتور محمد عبده يماني رحمه الله قال لي الدكتور يكلمك يا دكتور زهير !، وجاءني صوته الحنون بقوله سلام، كيف حالك يا واد يا رضي !. فينك لي أكثر من عشرة أيام ما سمعت صوتك. فقلت: والله إن صحتي غير مستقرة.. قال فورا: سلامات .. سلامات .. ليه ما اتصلت بي نشوف أمرك ونسفرك. قلت له: جئت إلى مكتبك الأسبوع الماضي، وكسروا خاطري وقالوا لي إنك مشغول جدا ولا تستطيع لقائي. يا واد أنا مشغول عنك يا رضي .. مين يقدر يكسر خاطرك، وأتحدى إنك كسرت خاطر عشرين نفر على الأقل، عشان ما دخلوك عندي، المهم .. أنا أشوف، صورتك في «عكاظ» .. أفرح والله يا ولدي كثيرا.. أنت تستاهل كل خير. ثم سألني: ليش جئت المكتب قلت له: من أجل موضوعين الأول نكمل ما تبقى من التفاهم حول الكتاب. والكتاب المقصود هنا هو أنني كتبت عن الوالد الحبيب والغالي والعزيز على نفسي الدكتور محمد عبده يماني أسكنه الرحمن الجنة وأدخله إليها من أوسع أبوابها وسميته ..[ اليماني .. القدرة ].. وكنت أجلس معه جلسات خاصة للتشاور والمناقشة حول هذا الكتاب. والذي أردت أن أبرز فيه جزءا من خدماته الفكرية والثقافية والاجتماعية. فقلت له: أنا قريب من النهاية.. فقال لي: هيا خذ التصريح من الوزارة، وشوف أية مطابع تريد الطباعة بها، قل لي وشوف التكاليف وأرسلها لك. ثم قال لي: ايش الموضوع الثاني قلت: أريد أن أسألك عن حلم أو رؤيا شاهدتها في النوم قال لي: صل على النبي صلى الله عليه وسلم. وحكيت له الرؤيا أني شاهدت محمد علوي مالكي رحمه الله مرتين في المنام في ليلتين متتالين، ففسرها لي، وأخافني من التفسير. والمؤلم، أشد الألم الذي أوجعني وأمرضني أن الوالد الدكتور محمد عبده يماني، قد توفي وأنا في خارج الوطن للعلاج.. والله، ثم والله إنني فجعت وارتبكت حين جاءتني رسالة على الجوال تخبرني بوفاته، وبكيت بصدق وحرارة لأنني فقدت أعز الأعزاء من المكيين. وحاولت العودة للوطن فورا ولم أتوفق في الحصول على كرسي بأي رحلة بسبب ضغط سفر الحجاج لبلادنا. لأنني أردت أن أشارك في تشييع ودفن هذا الوالد الكبير، فهو صديقي وأبي وأخي، وشيخي وأستاذي، ومعلمي، وناصحي، وسندي القوي وصاحب فضل كبير علي. المهم .. اليوم وبعد رحيل هذا ..[ الكبير ].. أدركت أن الوالد الدكتور محمد عبده يماني أسكنه الله الفردوس الأعظم كأنه كان يودعني بتلك المكالمة الأخيرة، وأنا لم أعرف، ولم أفهم، ولم أدرك أهمية تلك .. [المكالمة الأخيرة ].. معه. أعتقد وأجزم في اعتقادي أن العالم والفقيه والمفكر والمثقف المتنور والداعية والكاتب والوزير الدكتور محمد عبده يماني أبرز ([ قلعة ]).. شعبية في فعل الخير والإحسان للناس وقضاء حوائجهم. ذات يوم قلت له: يا دكتور مكتبك ماشاء الله من كثرة الناس والمراجعين، فقال لي: الله أكبر عليك يا رضي !. أريد أن أقول للتاريخ إن الدكتور محمد عبده يماني له فضل بل صاحب فضل وإحسان علي وقف معي وبجواري في كل أزماتي، ولم يخجل، ولم يخف، ولم يستح حين تدخل بشفاعات قوية.. وأرجو من الله أن يساعدني على الرد له ذلك الفضل والجميل والمعروف. لقد مات الوالد الدكتور محمد عبده يماني موتة هي..[ موتة الصالحين ].. وهي الموت على حسن الخاتمة، فلقد مات اليماني في الشهر الحرام، وفي الأيام الفضيلة. مثل موتة محمد علوي مالكي، وموتة الوالد الشيخ أحمد محمد جمال. رحمهم الله جميعا. مرة واحدة في حياتي كلها زعل أو غضب مني الوالد الدكتور محمد بسبب اجتهاد مني عن جريدة الندوة، ولم أكن أعرف ذلك، واستغربت عدم سؤاله عنى فترة طويلة، فسألت أخي وصديقي الحبيب الاستاذ سعود دهلوي الذي أخبرني بذلك ثم رتب لي موعدا للسلام عليه والاعتذار له، فوجدت أمامي الأب الحنون محمد عبده، قائلا لي فورا: هلا بالرضي هلا والله .... إلخ. ويتميز محمد عبده يماني الرجل المكي عن غيره الذين تعلموا وتلقنوا العقيدة الإسلامية بكل قواعدها السمحة ومبادئها الإنسانية المتسامحة بأنه خدم القضية الإسلامية في كثير من جوانبها. وباعتباره من أبناء مكةالمكرمة فهذا يدل على أن اليماني حمل .. [ الهم الثقافي ] .. منذ بداياته في الستينات الميلادية من القرن المنصرم المليء بالمتغيرات. ثم دخل الدكتور محمد عبده يماني تجربة مميزة في العمل السياسي الرسمي، حيث تدرج في مناصب قيادية مهمة في الدولة كان آخرها عندما عين وزير للإعلام في بلادنا في عهد الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله، ورغم كثرة انشغالاته السياسية المهمة والحساسة لم يترك الاهتمام .. [ بالثقافة والفكر الإسلامي ]. إن الدكتور اليماني مثال للمفكر الإسلامي الحقيقي وأنموذج راق للكاتب السعودي الذي ملأ الساحة الثقافية والفكرية اشتغالا بفكره وثقافته لدرجة أن الكثير من الطاقات والقدرات الشبابية المثقفة وبخاصة من أهل الحجاز قلدوا اليماني وأعجبوا به لدرجة كبيرة.. فله تلاميذ كثر هنا وهناك. إن من يقف على حياته ومؤلفاته يعرف بأنه ترفده في ذلك ثقافة ضخمة ومعرفة نادرة، فهو الإداري والكاتب والعالم والفقيه والمفكر والمثقف والوزير والخبير في فعل الخير. الطريق الذي سار فيه اليماني مر في واقع المجتمع ليس في مكةالمكرمة فحسب، بل في كثير من المجتمعات السعودية وغيرها من بعض البلدان الإسلامية. فاليماني تجربته مشحونة بالكثير، وتعطينا خبرة مع مشكلتنا الأساسية في قضايا البر وفعل الخير والإحسان. ولقد أجمع الناس على هذا الجانب في شخصيته. ولكن اليماني تربى على المفاضلة في فعل مكةالمكرمة لأن الحسنة في مكةالمكرمة بمائة ألف حسنة. وأهل مكةالمكرمة هم الرواد في فعل الخير والبر والإحسان لأنهم استمدوا ذلك من عقيدتهم الإسلامية وتربيتهم الراقية في تحقيق التقارب والتكافل الاجتماعي. فهم الرواد في الحركة الدينية والفعلية الاجتماعية. وتلك الحركة كانت ولا تزال مؤثرة بشكل مباشر ومتفاعلة مع ما يحدث في خارجها. وهذا بلا شك ينعكس على وضع هذه الأعمال الإنسانية. قال لي ذات مرة: إنه خلا إلى نفسه في بلدان الغربة، وكأنه زاهد يتعبد، وتولدت لديه عادات جديدة اكتسبها من الغربة حيث أصبح يقرأ في المقاهي والحدائق العامة والمترو والقطارات. ولم يشعر بالتشويش على تركيزه العقلي في تلك المدة الزمنية التي قضاها في مرحلة الدراسة والتحصيل العلمي واكتسب الكثير من السلوكيات الحضارية وأصبحت مكتبة الجامعة التي يدرس فيها هي الخل الذي يؤنس ثقافته ويلطف فكره. فظل اليماني كما هو ، هو ، متمسكا بوطنه، معتزا بحضارته الإسلامية، وفيا لمبادئ وقيم عقيدته الإسلامية. من هنا شكل محمد عبده يماني .. [ مدونة ] .. جديرة بالدراسة والاهتمام. لقد كان لليماني دور وتأثير كبير وملحوظ في مسيرة الثقافة السعودية، فانشغل بقضايا عقدية كثيرة ومهمة للغاية، واهتم كثيرا بفكر التراث الإسلامي. فاليماني واحد من المفكرين السعوديين القلائل الذي اتفق مع أناس واختلف معه آخرون.. واستطاع المفكر اليماني أن يجعل كثيرا من الناس تسير في ركبه بغض النظر عمن خالفه أو اتفق معه. محمد عبده يماني مفكر حر، وقيمته تكمن في دأبه الفكري والثقافي، واستغراقه في الفهم المعرفي. لذا دشن اليماني مشروعه الفكري العقدي بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، من قبل البعض. اليماني مفكر متميز بكل معنى الكلمة، حيث شكل حضورا قويا، وتأثيرا كبيرا في المجتمع السعودي وخاصة جيل الشباب، ويملك قدرة جيدة على التواصل مع الجميع لأنه رجل اجتماعي ذو نسيج مميز بل فريد، فلذلك فهو في مكان الإعجاب. يتهم، واتهم اليماني بكثير من التهم من أعدائه وخصومه فبعضهم يتهمه أنه يتغذى عند سيدنا علي، ويتعشى عند معاوية، وهذا غير صحيح، لكن اليماني كان يحرص على إرضاء كل الناس، وكل الأطياف، وكل المستويات الاجتماعية. ولا يحب أن يغضب منه أحد .. ويمد يده لكل من أراد مصافحته وإن كان من الخصوم الفكريين. امتلأت أيام وسنوات محمد عبده يماني بكثرة اقترابه والتصاقه بالأسماء الكبيرة فساعده ذلك في تكوين مفردات عالية القيمة واتساعها وكثرتها، فتحكمت في حياته الكتابية والثقافية. وأدرك اليماني مبكرا أن هناك أشياء يولي زمانها، وأشياء تبقى على مدار التاريخ وتبقى خالدة في ذاكرة الأجيال وسمعها وبصرها وفؤادها. شاخصة في ضميرها. لأنها بصمات لا تمحى بعوامل التعرية التاريخية. وهي الكلمات والفكر فهي لا تموت. من حسن حظي، رغم قناعتي أن ليس للحظ ذاكرة كما قال ( هيلغا دورموند) أنني عرفت الدكتور محمد عبده مبكرا وعن قرب، وعشت مع الأكثرية التي تحبه. فاستفدت منه فكرا وثقافة، فعاش اليماني في قلبي وعقلي وروحي ووجداني. وعرفت .. [ قيمته ] .. الفكرية والثقافية والسياسية والدينية والاجتماعية. وأتمنى على الشيخ صالح كامل شفاه الله وأبناء الدكتور محمد عبده يماني وبالأخص أخي الحقيقي وصديقي الحبيب الأستاذ ياسر وإخوانه وشقيقاته أن يسارعوا في .. [ تأسيس مركز اليماني الثقافي الاجتماعي ].. لقد ستر اليماني نساء، وستر عوائل، وستر رجالا، وستر .. وستر .. وستر .. وستر .. فالله يستره وأهله في الدنيا والآخرة. ففي هذا المقال المستعجل حاولت استرجاع لمحات سريعة من حياة هذا الاسم النجم الكبير، لكي نذكرها وأذكر بها، ولكن أهدف إلى أن أبعث وأرسخ اسم هذا الرجل الكبير الذي أزعم أنه فوق النسيان.. إن محمد عبده يماني لن ينسى من تاريخنا المكي والسعودي. كما أريد أن أقول للمتلقي: إن أجيالا وأقلاما تعرفه، سوف تكتب وتكتب وتدرس حياته وإنتاجه. لقد فقدت الأمة العربية والإسلامية رجلا من الوزن الثقيل والمميز والمتفرد.. كما أتمنى من أمين العاصمة المقدسة، ومحافظ جدة، أن يطلقا اسم الدكتور محمد عبده يماني على أحد الشوارع الرئيسية والمهمة في مكةالمكرمةوجدة. رحم الله الوالد محمد عبده يماني وأسكنه الجنة بجوار الشهداء والصديقين، وأدخله الجنة من باب الريان، وأجلسه بجوار سيدنا حمزة بن عبدالمطلب سيد الشهداء. والله يسترنا فوق الأرض ، وتحت الأرض ، ويوم العرض ، وساعة العرض ، وأثناء العرض. * أديب وكاتب سعودي للتواصل : 5366611 [email protected]