يستدعي التاريخَ سوقُ عكاظ في تجلّيه الجديد. ذلك التاريخ الذي كانت أسواق العرب فيه من أهم عوامل توحّد العرب، لغةً، وأدبًا، وثقافة، واقتصادًا، وسياسة. ويدور الزمان دورته، فيُلفي العربُ أنفسهم على مشارف واقعٍ جديد كذلك القديم، الذي كان إذ كانت عكاظ خيمة العرب الكُبرى.. واقعٍ يستدعي آصرة روحيّة ومادّيّة تجمّع الشتات، وتؤلِّف النثار، وتبني للغد احتمالاته الأبهى. لهذا ينبثق من عكاظ معنى خاصٌّ، لا شبيه له في مهرجانات العرب الأخرى، ورمزيّةٌ فارقة يعتكظ فيها طارف الأُمّة والتليد. في هذا السياق التاريخيّ عن سوق عكاظ يورد (النحّاس، أبو جعفر أحمد بن محمّد، -338ه 950م)، في كتابه "شرح القصائد التسع المشهورات"(1)، وبعد أن شرح المعلّقات، قوله: "واختلفوا في جمع هذه القصائد السبع، فقيل: إن العرب كان أكثرها يجتمع بعكاظ ويتناشدون، فإذا استحسن الملكُ قصيدةً، قال: علّقوها وأثبتوها في خزانتي. وأمّا قولُ من قال: إنها عُلّقتْ في الكعبةِ، فلا يعرفه أحدٌ من الرواة، وأصحّ ما قيل في هذا: أن حمادًا الراوية لمّا رأى زُهْدَ الناس في حِفظ الشِّعر جَمَعَ هذه السبع وحضَّهم عليها، وقال لهم: "هذه المشهورات"؛ فسُمّيتْ القصائد المشهورة لهذا." أمّا (ابن خلدون، -808ه 1406م)، فيقول في "مقدّمته"(2): "اعلم أن الشِّعر كان ديوانًا للعرب، فيه علومهم وأخبارهم وحِكَمهم. وكان رؤساء العرب متنافسين فيه، وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده وعرض كلّ واحدٍ منهم ديباجته على فحول الشأن وأهل البَصَر؛ لتمييز حَوْكِهِ. حتى انتهوا إلى المباهاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام، موضع حجّهم، وبيت أبيهم إبراهيم، كما فعل امرؤ القيس بن حُجْر، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سُلمَى، وعنترة بن شداد، وطَرَفة بن العبد، وعلقمة بن عبدة، والأعشى، وغيرهم من أصحاب المعلّقات السبع."وفي سوق عكاظ كان للمرأة كذلك حضورها الأدبيّ، الخارق للعادات والتقاليد العربيّة.. تلك العادات والتقاليد المستحدثة لا القديمة. فتلكم الخنساء، وشهادة النابغة في شِعرها، بعد أن أنشدتْه عَقِب الأعشى وحسّان، قائلاً: "لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلتُ: إنكِ أشعر الجنّ والإنس". أو "والله ما رأيتُ ذات مثانةٍ أشعر منك". وإن كانت شهادة النابغة، (الفحل)، للخنساء، (الأنثى)، ما تزال مكتنفة بالتنقّص من شِعرها، لا لشيء إلاّ لأن عليه مسحة أنوثيّة لا تستسيغها ثقافة ذكوريّة كلّ الاستساغة، وما الإشارة هناك إلى "المثانة" إلاّ ازدراءٌ للمرأة وإنْ في معرض مدح. أمّا تقديمها على الشاعر الفَحْل (حسّان بن ثابت)، فحكاية لعبتْ وراءها العصبيّة القَبَليّة ما لعبتْ. فلا اغترار، إذن، بتلك المؤشّرات الظاهريّة على الاعتراف بمزاحمة الخَنْساء للفَحْل في سوق عكاظ. إلاّ أن تلك حكاية أخرى ليس هذا بمقامها(3). أمّا تجربتي الشخصيّة في سوق عكاظ، فقد جاءت في أوّل مواسمه، مساء الثلاثاء 1 شعبان 1428ه 14 أغسطس 2007م. حيث شهدتُ فعاليات خيمة النابغة الذبياني بسوق عكاظ، مشاركًا مع الزميلين الدكتور محمد مريسي الحارثي والدكتور سعيد السريحي، في ندوة حول "التجربة الشعريّة الحديثة في المملكة العربيّة السعوديّة"، أدارها الدكتور عبدالرحمن الطلحي. وقد تناولتُ في ورقتي التجربة الشعريّة الأحدث في المملكة، تحت عنوان "قصيدة النَّثْرِيْلَة (مقاربة في البنية الإيقاعيّة لنماذج من الشعر الراهن في السعوديّة)". والنَّثْرِيْلَة بناء جديد من الشِّعر يقع إيقاعيًّا بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة. وقد عرّجتْ الدراسةُ على بعض من كتبوا القصيدة بذلك الشكل المزدوج، في المملكة وخارجها، مركّزة على تجربة الشاعرة السعوديّة منال العويبيل. وكان الهدف هو إلقاء الضوء على كشفٍ أجناسيٍّ من خلال تجارب محدّدة. ولمّا كانت التصنيفات المطروحة لا تسعف في تصنيف تلك النصوص- المعدودة من قصيدة النثر- كان الاجتهاد في اقتراح مصطلح جديد يميّز ذلك الشكل الشِّعريّ. وهي محاولة- لاقت أصداء جيّدة في بعض وسائل النشر المحليّة والعربيّة- لكشف اتجاهٍ فنّيّ غير معلن وتسميته كي يحظى بشهادة ميلاده المستقلّة. وأزعم أنه قد تبلور شكلاً شِعريًّا يمكن التنبؤ له- في حال تكاثفه- بأن سينتهي إلى فتح بدائل إيقاعية، عن عروض الخليل وشِعر التفعيلة معًا، لا بنبذ الموسيقى الشِّعريّة العربيّة، ولكن باستثمار جماليّاتها، بروحٍ عربيّة تستعيد بكارتها. في ذلك التاريخ كان مهرجان عكاظ في بدايته. وقد لفت نظري إذ ذاك أمران: عزل المرأة عن المشاركة في الندوات، فرأيتُ في ذلك ظاهرة غير حضاريّة ولا عكاظية. ولعل الترتيبات الآن قد باتت أفضل. كما لاحظتُ يومذاك أن تلك المعلّقات الشِّعريّة التي عُلّقت في العراء، فتخطّفتها الرياح والأيدي، ما كان لها أن تُعرض بذلك الشكل.. ولكن لكلّ بداية عثرات. واليوم يحقّ لنا أن نشيد بتطوّر المهرجان على نحو ملحوظ. والمأمول أن يغدو واجهة ثقافيّة عربيّة وعالميّة. إلاّ أن ذلك لا يتأتى بتحويل الثقافة إلى منابر للعلاقات العامّة، ولكن بتشجيع المبدع السعودي نفسه قبل كلّ شيء، والاحتفاء بمنتجه قبل غيره، وتنمية الثقافة المحليّة ودعمها ماديًّا وإعلاميًّا. إن ثقافة الجزيرة- التي كانت عكاظ سوقها الأكبر في الماضي، وأسّست تاريخ العرب الشِّعري والأدبي- هي التي تعوزها التنمية اليوم، وينقصها التشجيع، والإعلام، وتستأهل منح الجوائز، ولو على سبيل الحفز والتعضيد؛ إذ لا يصحّ بحال من الأحوال أن يغدو المثقف السعودي هامشًا على متن الأضواء المرسلة من عُقر داره إلى خارجها، وكأن أرضه ما زالت قفرًا، لا تملك إلاّ النقود، فلا تدري شمالها ما تنفق يمينها. إن للطائف لحبًّا خاصًّا في نفسي؛ فهي الحبيبة التي قضّيتُ بين أحضانها من سنيّ العمر أنداها؛ فجاءت عودتي إليها، عبر سوق عكاظ الأوّل، عودةَ طفلٍ ظلّ حنينه أبدًا لأوّل منزل. لذلك لم تكن مشاركتي في عكاظ نقديّة خالصة، وما كان ينبغي لها أن تكون كذلك، بل صحبني فيها بوح القصيد، ولا سيما قصيدتي "طائفيّة"، ومنها: طافَ طَيْفٌ طائِفِيٌّ وتَثَنَّى مُشْرَئِبَ الوَعْدِ عَنَّى وتَعَنَّى عِنَبِيَّ الثَّغْرِ لَمَّا زارَنِي أَيْقَظَ الصَّحْراءَ في الصَّبِّ فَغَنَّى نَشَرَ الرِّيْشَ سَلاماً فابْتَدا أَلْفَباءَ العِشْقِ سَطْراً فكَتَبْنا ثَقَفِيَّ القَدِّ عَرْجِيَّ اللُّغَى يَتَغَنَّى كَمْ فَتًى فينا أَضَعْنا وأماطَ الخَزّ عن حُرِّ النَّقَا فتداعى الوجدُ هَتْناً جادَ هَتْنا مَن أنا قالتْ وآرامٌ نَزَتْ شهوةً واهتزَّ وجٌّ وارْجَحَنّا ورَنَا الأفْقُ عيونًاً وطُلًى تَزْحَمُ الوَهْدَ وتَغْشَى كلّ مَغْنَى أنا غَزْوَانُ أبي.. يا لأبي باذخَ الهامةِ تَيّاهاً مِفَنّا (1) تح. أحمد خطّاب (بغداد: وزارة الإعلام، 1973)، 681- 682. (2) تح. درويش الجويدي (صيدا- بيروت: المكتبة العصريّة، 2001)، 584. (3) ناقشتها في كتابي: ألقاب الشُّعراء- بحث في الجذور النظريّة لشِعر العرب ونقدهم، (إربد- الأردن: عالم الكتب الحديث، 2009).