برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين، افتتح أمير منطقة مكةالمكرمة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز فعاليات سوق عكاظ في دورته الثانية في التاريخ الحديث .. ويأتي هذا الافتتاح مجسداً لالتقاء إرادة القيادة الواعية مع أماني الثقافة وطموحاتها في إعادة إشعال وعي الذاكرة التي أبت الانطمار، والركود في غياهب التاريخ . وحين نقرأ تاريخ عكاظ نجده يمثل إرادة عربية في الالتقاء على مبادئ الخير، السلام والجمال، الإخاء والحب .. وإذا كانت كثير من الرموز العربية - عدا الرموز المقدسة - أحالتها الثقافة العربية إلى تاريخ غيبي، واقتران بالأساطير، فإن "عكاظ"، تبقى نمطاً فريداً من تلك الرموز؛ حيث كانت الرمز ذا الصناعة البشرية، نبع من إنسان هذه الأرض، وإليه آل تاريخه وحين نستعيد خبر النابغة الذبياني الذي كانت تقام له قبة من أدم، ويستمع إلى الشعراء في عكاظ، فنجده يأخذ على حسان القلة فيما يذكره من الأسياف، والجفان، والقصور عن المبالغة في الصفات، فإنا نجد أن خبر النابغة المشار إليه بغض النظر عن التفصيلات، يحاول أن يجسد المكانة التي كانت للنابغة بسبب ماكانت ترتجيه العرب من هذا الحكم، ومن فنها في إبداع الشعر، فتجدها تقيم له مكاناً مميزاً و"تضرب له قبة من أدم يجتمع إليه فيها الشعراء"، وكأن العرب أصبحت تعي ضرورة أن تضع رموزها الإبداعية، فوضعت الرمز الناقد (النابغة)، وأحاطته بأبهة منظر مكانه في ذلك المجمع الذي تحتشد فيه الحشود الغفيرة، من المتجرين، وقاصدي الموسم، فكان مكان النابغة مميزاً بالقبة المصنوعة من الأدم . صنعت العرب الرمز الناقد، الذي تتشكل من حكمه صناعة وتلقي الرموز الشعرية... وكأن العرب أرادت بذلك أن تتجه إلى الارتقاء على إحنها، وحروبها، إلى التحليق في آفاق الكلمة الشعرية، واستنطاق الأشواق والآمال، وتحقيق فسحة من انشراح النفوس المنقبضة، واتساعاً للهموم الضيقة . وإذا اتجهنا إلى التفصيلات في هذا الخبر؛ فإن ذلك ولو كان مشكوكاً فيه يؤكد أيضاً على استنطاق واضعيه من العرب بعد الإسلام، ومن حملوا ثقافتهم، سياق وحركة الثقافة العربية، إذ إن هذه التفصيلات تستند إلى ما استنطقه العرب عند التدوين عن ذلك؛ فأسندوا هذه التفصيلات الواردة في الخبر من إشارة النابغة إلى حسان في تقليل عدد الجفان، وطلبه المبالغة، تستند إلى ما استنطقه العرب عند التدوين عن ذلك؛ فأسندوا إلى النابغة تفصيلات تنبع من حب العرب للمبالغة في الكلام . وهذا يعطينا مؤشراً آخر، على أن حب العرب لذلك ليس كذباً وتزويراً، إذ إنه أسند إلى النابغة وهو يحكم بين الشعراء، بين أفواج من العرب، تدرك فن الشعر، وطبقات القول فيه، فمن غير المعقول أن يسند إلى النابغة مايتوقع منه مخالفة الذوق السائد في تلك الفترة، أو الانقلاب بالشعر إلى مماحكات المطابقة مع الواقع التي يرتقي عليها الشعر، ولذلك أسندت إليه هذه التفصيلات التي تتوافق مع حب العرب للمبالغة في الكلام، التي تأتي من جنوح العرب إلى خيمة الكلام التي تجسد أفعالهم وأمانيهم، وترتقي بشؤونهم، ووقائعهم، وأخبارهم، في بيوت الشعر التي يسير بها الركبان، وتحمل مفاخر العرب من مكان إلى مكان . وظهور الخنساء الشاعرة المعروفة على مسرح هذا الخبر يحمل دلالات عدة منها: @ اتجاه الثقافة العربية إلى الاحتفاء بشعر المرأة، وطاقاتها الإبداعية، في سوق من أشهر أسواقهم، وأمام حشود غفيرة، وناقد مرتضى من العرب، وشعراء كبار حريصين على المنافسة، وألا يتقدمهم أحد، فضلاً عن امرأة، وكأن ذلك أيضاً يتفق مع رسالة سوق عكاظ التي أرادت أن ترتقي بمكانة المرأة العربية، وتتعالى بها عما كان يحدث لها من إقصاء واسترقاق، فكان ذلك ارتقاء بما يطلب من المرأة من خدمة الرجل، وحفظ النوع، إلى أن يكون إبداع المرأة وشعرها ملاذا لهموم العرب، واستنطاقاً لأشواقهم، وتجسيداً لأفعالهم على لسان المرأة، وبإبداعها . @ شعور المرأة بمكانة إبداعها، أعطى لها الجرأة في أن تتقدم لمنافسة الشعراء، في قبة النابغة، وأن تحاور الناقد، والشعراء . @ مع ان رسالة عكاظ واضحة في تقدير واحترام إبداع المرأة، كما أشرت إلى ذلك الأمر الأول، إلا أن الحس الذكوري مازالت له منافذه التي تتسرب إلى النابغة، ولذلك قال لها "لولا أن أبا بصير أنشدني قبلك، لقلت إنك أشعر الناس . أنت أشعر من كل ذات مثانة" . وكأنه أراد أن يقصر تميزها الذي لمسه، وكاد أن يطلقه، ويجعلها أشعر الناس؛ فقصر ذلك التميز على النساء فقط . ووعت الخنساء الأمر، وعرفت أن تميزها الشعري على النساء فقط ليس بذي بال، خاصة أن شعر المرأة عند العرب إزاء شعر الرجل محدود .. ولذلك جاء ردها ".. والله من كل ذي خصيتين .." . @ ان رد الخنساء على النابغة، لايحمل فقط رغبتها في اتساع مساحة تفوقها لتشمل الرجال، بل يشير إلى احتجاجها، على تصنيف الإبداع، وأن الشعر لا يفصل في التميز فيه بين رجل وامرأة . وفي ختام هذه المنافسة لهذا الخبر، ومايرتبط به من سياقات نستطيع أن نؤكد على أن عكاظ أرادت أن تحمل البذور الأولى للتفكير في الإبداع الشعري، وأسباب التمايز فيه، وتوجيه الطاقات المبدعة إلى استثمار فعلها، وصنائعها في الارتقاء بالذوق العربي، وبالعقلية العربية، وتحويلها من فتنة الحرب إلى فتنة القول . ومابلغته سوق عكاظ من تلقٍ متميز للكلام، وسماع الجديد والتهيؤ لاستقبال الإعجاز القرآني فيما بعد، كان محفزا للرسول محمد صلى الله عليه وسلم أن يبلغ رسالته في ذلك السوق، حيث كان يقول "ياأيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" . وكانت قريش تدرك سريان الخبر في عكاظ، وتدرك شان التلقي في ذلك السوق، فكان يتبعه رجل يقول: "إن هذا يريد أن يصدكم عن آلهتكم" فكان ذلك الرجل أبا جهل .