من يعرفني جيداً، يعلم أنني أعشق القهوة لدرجة تقارب الإدمان، حيث يمكن أن أتناول ما يقرب من ثمانية إلي ثلاثة عشر فنجان من القهوة كل يوم، في الواقع هو رقم أعتبره صغيراً مقارنة بأحداث العالم الكبير، فمثلًا نشرات الأخبار تحتاج إلي عشرة فناجين من القهوة كل ساعة، فقد أصبحت العناوين والأحداث بها عبارة عن مشاهد دراماتيكية ذات طابع حزين من الطراز الأول، أصبح فيها لون الدم مألوفاً، والمآسي مملَّة، وهنا لا يكفي تغيير القناة، بل يُفضَّل إغلاق التلفاز بأكمله، يليها مواقع التواصل الإجتماعي التي باعدت أكثر ما قرَّبت، فقد أصبح من السهل بضغطة زر واحدة، الدخول لمنزل أحدهم، وغرفة نومه، والتعرُّف علي أفراد الأسرة، وملامح زوجته عن قرب، وما هو نوع الجنين ببطنها، وماذا يوجد داخل القِدرعلي موقدهم، ومن سيزور المنزل بعد ساعة، وماذا سيقدم له ليتناوله. العديد من خصوصيات المنازل، أصبح متاحاً للجميع، عيش تفاصيلها، والتعرف عليها، وكأنها شيء عادي، وما يزيد الطين بلّة، إتجاه البعض للمتاجرة بحياتهم الخاصة، فقط لجني المال، أو كسب الشهرة، أو الحصول علي عدد أكبر من المتابعين، وهنا لا تكفي مرارة القهوة، لإبتلاع ذلك المشهد المظلم فحسب، بل نحتاج إلي ما هو أعمق، وأشدّ مرارة من القهوة، ليواسينا في تلك الأيام "إن وجد!". أغلق وسائل التواصل، وما يحدث بها من مشاهد عبثية، لأنتقل إلي أرض الواقع، وأواجه رحلتي اليومية، في التعامل مع المشكلات، التي تقع علي مسامعي كل يوم، سواء كانت مشكلات من زملاء العمل، أو الأصدقاء، أو العائلة، عن علاقات إنسانية معقَّدة، وصدمات متتالية في البشر، تجعلني للحظة، أرغب في القفز داخل أعماق الكافيين، والإختفاء عن البشر لوهلة، حتي أتغلَّب علي هذا الشعور المرعب بالخوف الشديد من الناس، لكي يمحي من عقلي، هذا المشهد السيريالي غيرالمفهوم لتلك العلاقات الرمادية، التي لا تغني، ولا تسمن من جوع، فلا يوجد ما يهدئ من روع أفكاري حين اسأل نفسي لماذا جعلنا الحياة بهذه الصعوبة والعناء علي بعضنا البعض؟ ولماذا بالأساس كل ذلك الألم؟ أعترف، بالرغم من أنني أكتب منذ سنوات، إلا أنني حقًا لم أجد ما أراه عذراً مناسباً لاستمرار الحياة بشكل معقّد وكئيب، فالقرار يتطلب شجاعة، والشجاعة تتطلب قراراً، ولكن مَن منا يمتلك القدرة علي اتخاذ أي منهم؟، للآن تؤلمني كلمات إحدي الصديقات حين أتذكرها، وهي تبكي بحرقة، وتخبرني عن الشخصية النرجسية التي كانت ضحيتها في يوم من الأيام، كانت تقول بصوت مُشبع بالألم :"إذا أردتِ أن تشبعي أحدهم قهراً، تجاهليه بعد الاهتمام، أشعريه بأنه غير كافٍ، غير مرئي، غير مسموع، حدثيه عن أفكاره، ثم حاربيها، ناقشيه في معتقداته غير القابلة للنقاش، أو التغيير، ثم اتهميه بالتطرف والجنون، أجعليه يشعر بأنه السبب في كل تصرفاتك السامة تجاهه، أجعليه دائماً في موقف الدفاع لا الهجوم، أسلبيه حق الاختيار، وحرية الرأي". في الحقيقة هذه الكلمات، جعلتني أفكر للحظة: لماذا يمارس البعض أفكار مؤذية تجاه من يعطيهم الشعور الكامل بالأمان؟ هل لأنهم يعانون من عقد نقص، أو أمراض نفسية؟ أم أنهم لا يفهمون معني أن يحارب أحدهم من أجلك ويأتيك مستسلمًا فتقتله؟ أتذكر أنني تحدثت بشكل سيئ، وشكل جميل في يوم من الأيام، لكن بعد هذا، وذاك، ظللت اسأل نفسي سؤالاً: لماذا لم يدعوني أرحل قبلها؟ فالشعور بالندم بين مسافة الصمت أو الكلام، يعذِّب، ويرهق الفكر والنفس، فهناك لحظة نقع فيها جميعًا، وهي: لحظة الهروب التي نمارسها حين نخفق، حينها فقط، نقرر الهرب إلي غرفتنا، وحيدين نفكر ونشعر بالقلق جراء ما حدث، نرغب حينها : لو أننا كنا لا نعرف أي شئ، أو إننا لم نتحدث عن أي شئ، وأنا هنا الآن: أجلس في غرفتي، يؤنسني فنجاني، وأقول لنفسي: "ياليتني لا أعلم، فالوعي بوابة الجحيم"، فيردّ عليّ صوت محمد عبد الوهاب "موسيقار الأجيال"، وهو يقول: "ومن العلم ما قتل"، فأضحك كثيرًا بيني وبين نفسي، واستكمل قهوتي، وأمسيتي الخاصة الهادئة، التي تحمل صوته الذي أعشق أغانيه بوجه عام، وأغنياته التي غناها من كلمات أمير الشعراء أحمد بك شوقي في فترة العشرينات والثلاثينات بشكل خاص، ثم أتنفس بعمق، وأغمض عيني، لأستمع لصوته الممزوج برائحة القهوة، ونسمات الخريف الباردة، وصوت أوراق الشجر التي تتساقط في سكون الليل تحت ضوء القمر ، ثم أخلد للنوم لأستيقظ غدًا لأمارس ما مارسته بالأمس، بصحبة القهوة، حتي أصل لمرحلة الهروب تلك من جديد!