ما لا تبتلعه التجارة، تأتي عليه السياسة. حتى أضحى العالم اليوم إما عناوين سياسية أو أسماء تجارية. وتضيع بعد ذلك العناوين الثقافية والأسماء الزراعية في آلة الإعلام والتسويق. وعلى طريقة الديموقراطية الأمريكية، فقد جاء تأسيس «حزب» القهوة الأمريكي ضد «حزب» الشاي الأمريكي وليس على الطريق العربية حيث إن الشاي والقهوة يكملان بعضهما بعضا ويتم تقديمهما سويا في كل المناسبات تقريبا. فبينما يهدف «حزب» القهوة الأمريكي إلى إزالة نفوذ الشركات وتغلغلها وتأثيرها في قرارات الحكومة الأمريكية، والتأكيد على أن الحكومة ليست عدوا للشعب، نجح هذا التيار لأول مرة بأن يفوز مرشحه بعضوية مجلس النواب بأصوات من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، على النقيض من «حزب» الشاي الأمريكي الذي يسخر من الحكومة الأمريكية ويطالبها بخفض الديون والضرائب الأمريكية والتقيد بدستور الولاياتالمتحدةالأمريكية. أما حين تتحالف السياسة والتجارة، فيصبح المنتج الفلسطيني في العالم منتجا إسرائيليا، والقهوة التي تنتجها دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا تصبح في الأسواق ولدى المستهلكين قهوة أمريكية، والشاي الآسيوي يصبح عند متذوقيه وعشاقه شايا إنجليزيا حتى لو لم يكن للإسرائيليين والأمريكيين والبريطانيين علاقة زراعية بهذه المنتجات. أما القهوة التركية ذائعة الصيت، فهي على النقيض من السياسة التركية، حيث يتم تناولها حلوة بالسكر، فقليل من متذوقيها من يتناولها مرة، وقد تميزت القهوة التركية بما يسمى «الوجه» وهي الرغوة التي تطفو على سطح الفنجان، وهو ربما ما جعلها تشتهر إضافة إلى فناجينها الصغيرة المزخرفة بألوانها الجميلة، وإن كانت القهوة التركية لم تشتهر أبدا في تركيا بل تكاد تكون غير معروفة، فلو طلبت من نادل المقهى في تركيا قهوة تركية ففي الغالب لن يفهمك. أما القهوة العربية أقدم أنواع القهوة كما هو متوفر من معلومات حتى الآن، فنبتت في أرض اليمن وعرفتها حاضرة الجزيرة العربية وباديتها لتصبح عنوانا عريضا للكرم العربي والضيافة العربية بطول الجغرافيا العربية وبعرض الثقافة العربية الاجتماعية، ومفتاحا مهما لأحاديثه وجلسائه من الأصدقاء. خلافا لتصنيفات القهوة المتعارف عليها حسب أنواعها ومواطن إنتاجها واستهلاكها وطريقة إعدادها، يصنف البدوي القهوة تبعا لترتيب تقديم الفنجان للضيف: فالفنجان الأول فنجان الهيف وهذا يشربه المضيف لبناء الثقة، والثاني للضيف كواجب ضيافة والثالث وهو لا يلزم الضيف والمضيف لأنه يعود للكيف والمزاج. وهي تقدم بفنجان عريض من أعلى عكس قاعدته، ويؤخذ على القهوة العربية الحديثة تداخلها بكميات كبيرة من البهارات مثل الهيل والقرنفل والزعفران بالإضافة إلى أن القهوة العربية أصبحت تقدم خفيفة جدا في بعض المجتمعات العربية، ما أفقدها كثيرا من قيمتها ومذاقها ونكهتها المتعارف عليها. انتقلت بعد ذلك القهوة العربية من الجزيرة العربية إلى تركيا فإيطاليا ثم بريطانيا، لكنها اشتهرت في أمريكا اللاتينية زراعة وإنتاجا واستهلاكا، وإن كانت السويد وفينلندا تأتيان في مقدمة مستهلكي القهوة، وأن ثلاثة أرباع القهوة المزروعة في العالم هي القهوة العربية، وهي التي تأخذ اسمها العربي عالميا «أرابيكا». يمكن القول إن القهوة أخذت مفهوما جديدا مع ثورة التواصل الاجتماعي، فقد إنخرط في ثقافة القهوة فئات كبيرة وكثيرة من مختلف الشعوب، بعضهم ربما لم يسمع بالقهوة من قبل على النحو السائد والمألوف للقهوة. أما مقاهي الوطن العربي هذه الأيام، فقد شطبت من قوائمها قهوة «سادة» وقهوة «مضبوطة» أو قهوة «على الريحة»، وجاءت بدلا عنها قوائم جديدة للقهوة على نحو: قهوة بالنكهة الطائفية، وقهوة بنكهة الإرهاب، وقهوة بمذاق الاحتلال، وقهوة بنكهة اللاجئين، وقهوة بمذاق الاستبداد، وقهوة بطعم الدم والدموع، تلك هي قهوة الشرق الأوسط الجديد بنكهة الحرب العالمية الثالثة. إنما يتذوق مرارة القهوة من يشعر بحريته، وسوى هؤلاء لايتذوقون المر مرتين.