بعيداً عن علم اللغة وعلم النفس المعرفي، كان لنعوم تشومسكي نشاطاّ فكريا ينسجم مع ما يدعو إليه على المستوى النظري الأكاديمي وهو قيادته لمناهضة الفكر الاستعماري الذي يضر بالإنسان، ولعلّ أبرز ما عُرف به هو انتقاده الدائم للكيان السرطاني الذي زرعه الاستعمار الغربي في الشرق الأوسط بعد أن قضى اليهود آلاف السنين في المنفى، والمقصود هنا دولة الاحتلال المسماة بإسرائيل. أخوف ما يخافه الصهاينة هو رؤية اسم أو وجه هذا العالم في قناة تلفزيونية أوعبر مقال في جريدة أو على غلاف كتاب جديد. يقول تشومسكي في كتابه الذي اشترك في تأليفه مع أكاديمي ومؤرخ إسرائيلي والموسوم "عن فلسطين"، أن على المفكرين والأكاديميين مسؤولية أخلاقية في الدفاع عن العدالة وانتهاكات حقوق الإنسان. انعكست أفكار تشومسكي النظرية على التطبيق العملي وأصبح ملء السمع والبصر في دفاعه عن الإنسان في كل مكان في هذا العالم المضطرب الذي نعيشه مثل دفاعه عن الفلسطينيين ضد أعدائهم الصهاينة الذين عاثوا في الأرض العربية فسادا وارتكبوا جرائم إبادة شاهدها العالم على الهواء في غزة، وعن المسلمين في الهند ضد الحكم الهندوسي المتطرّف الذي وصل إلى ذروته في حكم مودي الآن، وعن الفيتناميين ضد أمريكا التي ينتمي إليها. إنه مفكّر نادر قل أن تجد له مثيلاً في عالمنا اليوم وربما عبر التاريخ لأنه ببساطة استطاع أن يعبّر عن رأيه بشفافية تامة وببساطة شديدة يفهمها الإنسان البسيط الذي يدافع عنه. اشتهر تشومسكي أيضاً بانتقاده الشديد للسياسات العسكرية والرأسمالية التي تقوم بها الولاياتالمتحدة في العالم طوال ستين سنة وبصوت عال عبر محاضراته العامة وكتبه الكثيرة، لعل آخرها الوقوف جنبا إلى جنب مع دولة الاحتلال إسرائيل في كل خطوة تخطوها عسكريا في حربها المستمرة مع الشعب الفلسطيني أو قانونياً بعرقلة أي قرار يصدر في الأممالمتحدة ضد الجرائم التي تقوم بها هذه الدولة المارقة. خصّص تشومسكي ثلاثة كتب رئيسية للدفاع عن القضية الفلسطينية ودحض الحجج الصهيونية حول أحقيتها إقامة دولة يهودية في فلسطين. بحسب تشومسكي، هدف الحركة الصهيونية الذي تسعى له الحكومية الإسرائيلية، منذ زرعها في فلسطين من قبل بريطانيا أول الأمر ومساعدة الولاياتالمتحدة آخر الأمر، هو أن تتخلّص إسرائيل من الفلسطينيين واستبدالهم بمستوطنين يهود وإقامة "إسرائيل الكبرى" من النهر إلى البحر. لا يتحدثون عن حق الفلسطينيين في العيش من خلال فكرة الدولة الواحدة لأن هذا سينسف بفكرة الدولة اليهودية في حالة وجود أغلبية فلسطينية في نظام ديموقراطي، ولا من خلال فكرة الدولتين التي تنسف بمشروع "إسرائيل الكبرى". لا حلّ لهم إذن إلا بتطبيق فلسفة التدمير والتهجير. لعل هذه الفلسفة التي يقودها النتن ياهو، والكلام لكاتب هذه السطور، تأتي قريباً بنتيجة عكسية وهو ما يمكن ملاحظته في الآونة الأخيرة في بعض تصريحات الإسرائيليين أنفسهم وهو أن العيش بأمان في هذه المكان أمر بعيد المنال.