رأيته يجر قدميه متنقّلاً بين المحلات القليلة في الشارع وهو يتوكأ على عصاه مثقلاً بالقصص الطويلة التي عاشها طوال ثمانين سنة. يحاول عبثاً تلخيصها لأولئك الواقفين على أعتاب محلاتهم دون جدوى. لا أحد يكترث للأمر. عجوز خالي الوفاض تجاوزته الدنيا ينتظر الباب أن يُفتح إلى ذلك الأفق البعيد حيث تسكت الآلام وتختفي آهات الذكريات القديمة التي أتعبت كاهله بأمراض السكّر وضغط الدم وملحقاتهما التي تغطي كل ناحية في جسده بدءاً من الصداع في رأسه وانتهاءً بأطراف قدميه. كان أصحاب المحلات يسعدون بوجوده قبل كورونا ويستمعون إلى حكاياته الطويلة ومغامراته الكثيرة، بل ويرحبون به ويقدمون له الشاي والقهوة ويضحكون معه ويمازحونه، وربما يشاغبونه أحياناً عندما يغيب الزبائن والذين هم عادة من أصحابه ومعارفه من سكان هذه القرية. كان هذا الكهل العجوز يظهر في هذا الشارع صباحاً ويغيب ظهراً ثم يعاود الظهور مجدّداً في المساء. لقد أصبح من علامات هذا الشارع الفارقة إلى الدرجة التي يمكن فيها إضافته إلى خريطة المكان. يقولون إن كورونا يحب كبار السن ومن الحب ما قتل. يسمع هذا العجوز تلك القصص التي تتناقلها الأخبار حول أطباء ينزعون أجهزة التنفس الصناعي عن كبار السن ويضعونها على الشباب. يرعبه ذلك المنظر ويعتقد أن ما يراه في هذا الشارع إنعكاساً لتلك الأخبار. يا لقسوة كورونا اللعين! ألا يمنّ عليه وينهي هذه الدراما التي تجعل من أصحاب المحلات يفرون منه كما يفرّون من الأسد؟ الكل، في هذه القرية الصغيرة التي تقبع خارج المدينة أو على طرف منها، يوصد الباب في وجهه خوفاً من فيروس يحمله هذا العجوز لهم. يترك الجزّار الباكستاني محله ويتظاهر بجلب أشياء من سيارته لكي يبتعد عنه. يدلف صاحب المغسلة الهندي نحو الداخل في اللحظة التي يقترب منها هذا العجوز عتبات بابه. يتظاهر البقّال الأفغاني بحمل كراتين إلى مستودعه القريب هرباً منه. لا يهتم هذا العجوز بهذا القاتل الخفي. بل إنه يعانده ويتمنى أن يكون رجلاً ليقاتله ويصرعه. يجلس هذا العجوز هنا مرة ويجلس هناك مرات. يخاطب هذا ويسلم على ذاك ويضحك ويسخر ويسرد قصصه مع الزوار والمرتادين بلا نهاية. أعرف هذا العجوز جيداً. كما أنه يعرفني حتى الجد العاشر. لابد أنه سيدخل هذا المحل الذي كنت أراقب من داخله تحركاته في هذا الشارع. المرة الأخيرة التي رأيته فيها كان قبل انفجار كورونا. لا سبيل إلى الهرب. لو خرجت سأراه عند الباب وسأقابله وجهاً لوجه وعندها لن تنفع تحذيرات وزارة الصحة أو فلسفة "السلام نظر" التي سيرفضها حتماً بقضّها وقضيضها. سأكون مضطراً إلى تبادل ذرات الأوكسجين معه فيعطيني بعض ما عنده وأعطيه بعض ما عندي بإفراط وتفريط. لن أتمكّن من تفادي اللقاء به. كيف سيقتنع بالفلسفة التي يسمونها "التباعد الإجتماعي" وقد نشأ وتربّى وكبر وسيموت على فلسفة التقارب الاجتماعي وصلة الرحم والصلاة في المسجد كتفاً بكتف وعبارات "تراصّوا" يكررها الإمام على مسمع منه طوال سبعين سنة هكذا في غمضة عين؟ لا مفر من المواجهة. "السلام عليكم،" قلت له مبادراً وأنا أنظر إليه هناك قبل أن يدلف إلى المحل "الأطباء يقولون: لا تصافح! لكن تعال. ليذهب الأطباء للجحيم." "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، ردّ علي بصوت مرتفع وهو يستغرب ترحيبي به. غاب عن الأنظار في اليوم التالي والشهر التالي والسنة التالية وما بعدها.