لأول وهلة ومن خلال نظرة واحدة إلى عناوين المطاعم والفنادق والمحلات التجارية في العواصم والحواضر العربية يدرك المرء الأزمة التي تعانيها اللغة العربية الفصحى في عقر دارها! حيث طغت مؤخَّرًا غير العربية وبكثافة على لافتات وأسماء هذه الأماكن، وعلى الإعلانات الموضوعة في الطرق والشوارع التي يكاد لا تقع أعيننا فيها على لافتة واحدة باللغة العربية إلا النزر اليسير، وكأن سمعة المحلات والأسواق لا تزدهر ولا ترتقي إلا باستعمال غير العربية. ولم يقتصر استعمال غير العربية على أسماء المحلات والشوارع فقط، بل جعلت أغلب الشركات والمؤسسات إتقان اللغة الأجنبية (وخاصة الإنجليزية على حساب إتقان اللغة العربية) شرطًا للتعيين فيها، ومع الوقت فرضت اللغة الأجنبية نفسها على أبناء المجتمعات العربية، وساهم التعليم في ذلك لاسيما مع انتشار المدارس العالمية التي تعتمد الإنجليزية (وبمستوى أقل الفرنسية والألمانية وغيرهما) لغةً أولى للتعليم منذ سن الروضة، حتى صارت اللغة الأجنبية هي اللغة الأساسية في التعليم (على حساب اللغة الأم) والتواصل بين شرائح كثيرة في المجتمع. ولم يسلم مجتمعنا من هذه الظاهرة فأصبحنا نجد شبابنا يُقبل على استخدام اللغة الإنجليزية (على أهمية ذلك لمن يتعلم لغته الأجنبية إلا أنها ليست في كل شيء): في حواراته الأسرية، ونقاشاته مع زملائه وأصدقائه في العمل. وتؤكد علوم التربية المختلفة أن التحدث باللغة الأم والتعلم بها أمر بدهي لابد أن يُهتمَّ به خاصةً في السن المبكرة؛ لأن الابتعاد عن اللغة الأم هو ابعاد للأجيال الجديدة عن هويتهم، وحرمانهم من المساهمة في تطور مسيرة الحضارة الإنسانية وما فيها من منجزات ومعارف ثقافية وعلمية؛ لأن الإنسان يفكر ويتطور ويبدع باستخدام لغته الأم، ومن لا يتعلم الإبداع بها فلن يبدع بغيرها!! ومع ذلك، فمن المبهج أن نرى قيادتنا الحكيمة ممثلةً في خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز – حفظه الله – وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان – أيده الله – يوليان اللغة العربية كل عناية واهتمام، ويدعمان الجهود المبذولة في سبيل صونها والمحافظة عليها، وفي سياق ذلك الاهتمام وتلك العناية تم إنشاء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية الذي يعدُّه اللغويون والدارسون من أهم المؤسسات المعاصرة المعنيَّة بحفظ ونشر وتطوير اللغة العربية الفصحى، ودعمها نطقًا وكتابةً، وتيسير تعليمها داخل المملكة وخارجها، والعمل على نشرها واستعمالها في المجالات كافة، وإحياء تراث العربية، تحقيقًا ونشرًا. ومن المتوقع في غضون مدة وجيزة أن يصبح مجمع الملك سلمان العالمي المرجع العالمي الأول في اللغة العربية وآدابها وتطبيقاتها، خاصةً أنه سينبثق عنه مركز بحثي متخصص، ومرصد دولي للغة العربية وتطوراتها كلغة حيَّة، وتنتظر هذا المجمع مهمةٌ تتمثَّل في تحديث المصطلحات، وإصدار ونشر المعاجم اللغوية الحديثة، إضافة إلى الإسهام في حركة الترجمة من وإلى العربية، وتوظيف الذكاء الاصطناعي في خدمة تطوير وتعليم ونشر العربية داخل وخارج المملكة. [email protected]