دمنذ القدم وقف الإنسان عاجزا أمام المرض والألم ولجأ إلى كل شيء من مشعوذين وسحرة وعطارين ورجال دين وكبار سن. من هذه التشكيلة استخلص دعما نفسيا وروحيا ودواء وطبّا. من هذه التركيبة أيضا خرج الطبيب، وهو من يجمع كل تلك الخبرات ويقدم كل تلك الاحتياجات لتخفيف المعاناة. وثق المريض وذووه بالطبيب وهو ملجأهم بعد الله، الذي خلق الداء وخلق الدواء واستودعه في علم ذلك الطبيب. عندما أقرأ عن أطباء عرب قدامى أشعر بإعجاب، وأحيّ في أولئك الرجال والنساء الجلَد والصبر والإنسانية. سبب شعوري هذا هو تخيل ذلك الطبيب أو الطبيبة في موقعه وأمامه مريض لجأ إليه، وهو مدرك لما يعانيه، ويحاول بما في يديه من علاجات محدودة وآلات معدودة وشعور بعجز يستحوذ عليه، تخفيف معاناة مريضه. هذا الشعور هو ما حفز أولئك الرواد لأن يبتكروا ويحاولوا ويجربوا من أعشاب وأقرباذين وآلات وعمليات ما أوصلنا اليوم إلى ما يعرف بطب حديث مبني على براهين. لكن خلال تلك الفترة كان المريض وكذلك الطبيب عرضة لمخاطر، وكانت النتائج غير مرضية دوما. جعل حمورابي الطبيب ضامنا بحيث يفقد حريته إن لم يكن حياته، إذا لم يستجب مرض لعلاج. جعل ذلك المنع الطب مغامرة لا يمارسه إلا مجازف. توسع اليونان في علوم من سبقهم وأشبعوا جانبا نظريا، وأوجدوا لما لم يتأكد فلسفة تشرحه. في الحضارة العربية وهي اسم جامع لدولة شعوب إسلامية وضعت أسس طب حديث وعلم تجريبي وتسجيل تراكمي لخبرات. نقلت نلك التجارب للغرب والشرق فأكملوا المسيرة حتى وصلنا لما يعرف بالطب الحديث. من تجربتنا المحلية الحديثة وثق المريض بالطبيب، لكن في عقود أخيرة اهتزت هذه الثقة بدرجة مقلقة. كانت هناك أسبابا لعدم رضاء المرضى بلا شك، من عدم توفر علاج مناسب في وقت مناسب وعدم كفاءة أطباء، مما انعكس بنتائج سيئة لبعض مرضى، وانتشرت حكايات من هنا وهناك طالت كافة التخصصات والمستشفيات. غذا تلك المرويات بعض صحفيين مبتدئين نزعوا لإثارة بعبارات مثل "أطباء يلغون في دماء المرضى" وغيرها من خيال علمي. مع هذا فلكل هذه المقدمات والنتائج جذور واقعية. في فترة الطفرة حصلت زيادة كبيرة في عدد الوافدين للمملكة وكذلك في عدد المواليد إضافة لرفاهية مصاحبة لزيادة في مراجعات المستشفيات لولادات وأي شكوى، موازية لزيادة الكشف عن علل وأمراض متقدمة. كانت تلك الزيادة في الطلب على المنشآت الصحية أسرع من نمو القطاع الصحي الذي عمل على التوسع في بناء مستشفيات وعيادات أولية ورفع التجهيز وتوظيف أطباء، كما توسع القطاع الخاص في خدمة صحية. لمواجهة الطلب على أطباء وتمريض تم تعاقد مع ممارسين من كل دول العالم بمختلف الدرجات والخلفيات. أتاحت منشآت حكومية وخاصة لسد العجز آنذاك لكثير من أطباء تجاوز صلاحياتهم وقدراتهم فطبيب بخبرة عامين مثلا يتصرف كاستشاري متخصص بكامل صلاحيات. أدى كل ذلك إلى كل ذاك. حصلت أخطاء وقصور في علاج لم تكن متوقعة أو مقبولة، وبالمقابل وصل الأمر إلى تعدي البعض بإجرام ضد أطباء، وتطاول سفهاء على ممارسين، وصعدت مطالبات بإغلاق منشآت. كان المتضرر الأكبر مع المرضى هم الأطباء الجيدون المجدون، الذين وقعوا بين نار بعض الممارسات السيئة حولهم، ونار التشكيك والاشغال بدعاوى غير مؤسسة، أو العمل تحت سيف العقوبات مما يحد من حركتهم وخياراتهم، حتى ترك البعض الطب كلية، أو صار شديد التحفظ. دفع الممارسون الصحيون ثمن قصور الخدمات الصحية عموما وضعف بعض إدارات المنشآت فصاروا في مواجهة المرضى يتلقون اللوم بمفردهم. لكن كما انحرفت الدفة يسارا عادت لتعتدل يمينا، فقامت جهود جبارة لتنظيم العمل الطبي. أنشأت هيئة التخصصات الصحية ومركز اعتماد المنشآت الصحية وتم تطوير نظم المراقبة من ناحية ومن ناحية أخرى تم تطوير التبليغ والشكوى والهيئات الشرعية. تم التدقيق على المؤهلات والتخصصات والصلاحيات وتحديد الممارسات المقبولة. زاد عدد الأطباء عالي التأهيل والتخصص من سعوديين وزملاء غير سعوديين. تم التوسع في عدد المنشآت الصحية وكليات الطب والمراكز المتخصصة وتطورت النظم والتجهيزات بصورة ملحوظة. لا ننسى هنا أن أول امتحان طب، وأول نظام ترخيص مزاولة مهن طبية، وأول تنظيم ممارسة المهنة تاريخيا، قد وضعه رئيس الأطباء سنان بن ثابت بن قرة بأمر من الخليفة المقتدر العباسي قبل أحد عشر قرنا. لذا يجب أن تعود الآن الثقة بالطبيب وتكون أساس التعامل. ثقة واعية من مريض واع يعرف حقوقه ومرضه وخياراته وتوقعاته العلمية، فالطبيب معالج فقط وليس شافيا فالبرء بيد الله. بالمقابل عليه أن يعرف واجباته أمام الطبيب والمنشأة والممارسين كي تكون علاقة ندية متبادلة النفع. ليس لدى أي طبيب أي هدف أو رغبة في الإضرار بأي إنسان، فما بالك بمريض، وما بالك وقد قصده ذلك المريض بطلب العون.