من منا لا يحلم بتلك اللحظات التي تختفي فيها كل الأعباء والمسؤوليات الدنيوية ..ولو لفترة من الزمان.. نرتاح فيها من العدو خلف أفكارنا ومطالبنا.. نحاول إنجاز أكثر مما تحتمله أبداننا وأذهاننا.. ومع ذلك فنحن لا نتوقف أبدا..!! فكلما طوينا صفحات المهمات السابقة.. حتى تفتح لنا صفحات جديدة لمهمات أخرى.. لم نكن نتهيأ لها حقا.. فنصاب بالإحباط.. نصاب باليأس.. ونحن نضع خطوة تلو الأخرى بكل بطء ورفض.. فهذه المسؤوليات لن تهدأ أبدا.. وستظل تطالبنا بالاستمرار في الدوران.. كالعجلات التي تدور حول السواقي.. وهي تسحب المياه لري المزروعات.. والحقول العريضة.. ونحن ندور وندور.. وبين مشاعرنا وعواطفنا التي لا حد لها.. ندور وندور.. لنسقي كل الزمن الحاضر.. ليثمر الآتي.. وتخضر الأذهان والأفكار بإبداعات، وطموحات جديدة ومفيدة.. ندور وندور.. لنمهد لكل القادمين اليوم، وفي الغد، بدروب سهلة ويسيرة، وسبل لا تعرف المشاق والضنى.. ليرتاح الآخرون دون أن يتعثروا بحصاة صغيرة تقف حائلا بينهم وبين الأبواب التي تنتظر قدومهم.. حتى ونحن جالسون.. حتى ونحن نحاول نيل قسط من الراحة في يوم إجازة أسبوعية، أو مناسبة سنوية، أو خاصة.. إلا أن تلك الأعباء تنهال علينا كالغيث في يوم عاصف.. وكأنها تكره أن ترانا منشغلين بغيرها.. منشغلين بأنفسنا المسكينة، التي لا نتذكرها إلا في أوقات نادرة جدا.. ولا نتذكر أن لها حقوقا كثيرة هي الأخرى..تحتاج منا لأن نسعى لتحقيقها دون تراخ.. أو تأجيل.. نؤجل.. ما أجمل هذه الفكرة.. أجل مشاغل اليوم إلى الغد.. أجل مسؤولياتك الثقيلة والتي لا تحتمل أعباءها حتى الأزمنة التالية.. أجل أفكارك وطموحاتك وأحلامك، حتى يأتي اليوم الذي لا تمتلك فيه أي أعباء أو مسؤوليات أخرى.. أجل.. أجل.. لا تتعجل.. لكن الحياة لا تنتظرنا أبدا عند عتبة الباب.. الحياة لا يهمها إن تعبنا أو شقينا.. أو بذلنا الدماء والأرواح في سبيل تأدية تلك المهام والمسؤوليات.. إنها تلزمنا بكل تلك الأعباء.. بعد أن تحجزنا نحن وعقولنا، وأفكارنا، ومشاعرنا، بين جدرانها الموحلة الكئيبة.. وتلزمنا بأداء ما لدينا من أعباء، حتى يمكنها أن تمنحنا إطلاق سراح مشروط.. نعم، لا حرية كاملة بعد الخروج من حصن الأعباء والمهمات اليومية المتكررة .. فنحن مملوكون لإرادة الأعباء التي نحملها منذ الصغر.. محكومون من قبل تلك المسؤوليات التي تم تحميلنا إياها قهرا، ودون إرادتنا، حتى تظل فوق ظهورنا، وبين جنباتنا، تفاجئنا في صحونا، وتقلقنا في نومنا.. مسؤوليات وأعباء لا حد لها، ولا مدى لطاقتها وعمرها الزمني، ولا مكان لها لتستقر فيه سوى دواخلنا وأعماقنا المنهكة والمدمرة من سياط هذه المهام، ومما تجرعنا إياه من سموم وهموم قاتلة، حين نحاول الجلوس في زاوية صغيرة من الزمن، حين نحاول أن نمنح عيوننا إغماضة بحلم جميل مشرق بالألوان.. حين نحاول أن نضع عنا كل شيء على عتبة اللحظات الحالية.. فقط لنتمكن من النظر إلى ما يفوتنا من أمور وجمال واسترخاء.. لا مجال للتراجع الآن، بعد أن بصمنا بكل ثقتنا ومحبتنا، وعواطفنا الكبيرة، لهذه الأعباء والمسؤوليات.. لا مجال للتوقف واستنشاق الوحدة والخلوة ومكافأة ذواتنا…. فليساعدنا الله إذن.