لم أكن مقتنعا كثيرا بمفهوم العبارة التي تقول ( إتق شر من أحسنت إليه ) لأنني كنت أتصور أن بعض الأمثال تميل للمبالغة وتتجاوز حدود المعقول , لتوقعي بأنه ليس هناك من يسيء لمن يحسن إليه أو يقدم له معروفا إطلاقا ! وأعلم كما يعلم غيري بأن بعض الحيوانات المتوحشة وغير المتوحشة لا تضر من يتعامل معها بإحسان , وقد رأينا مشاهد تعطي الدلالة على أن الحيوان يحفظ الجميل لمن يحسن إليه . لكن الصدمة كانت قاسية عندما شاهدنا مقطعا على اليوتيوب يجسد معنى الجحود والنكران وسوء رد الجميل , ويترجم معنى السلبية وانعدام الإنسانية . والمقطع عبارة عن لقاء تلفزيوني مجلل بالدموع تفاعل معه الرأي العام بشكل كبير وهو يستمع لتلك المرأة الحزينة التي تبرعت بكليتها لمديرتها والتي قامت بفصلها بعد العملية لأن المتبرعة استغرقت الكثير من الوقت في فترة التعافي ! وكأنما تعض اليد التي امتدت لها وقت حاجتها متناسية ما قدمته لها بعد شفائها , فهي لم تعد تعاني من الديلزة وآلامها . فقررت أن تكون المكافأة هي الطرد لمن قامت بالتبرع لها وإنقاذ حياتها . تفعل ذلك بضمير ميت ومشاعر متبلدة وأخلاق متردية , غير مبالية بأنها تحمل عضوا من جسد الأخرى تعيش به حياتها . والواقع أن هذا الموقف السلبي المؤسف يعطي الدلالة بان هناك عناصر رديئة في المجتمعات – بكل تأكيد – يحرصون على أن يأخذوا ولا يعطون , في منتهى الأنانية وحب الذات بمعناها الدقيق , فهم لا يرون سوى أنفسهم ولا يهتمون إلا بما يخدمهم ويحقق مصالحهم فقط , دون مبالاة بمصالح الآخرين وحقوقهم ودون اعتبار للنواحي الإنسانية اواهتمام بالقيم . يمارسون المكر والنصب والاحتيال في تعاملهم مع الناس واستغلال من يحسن الظن بهم , فأسلوبهم يقوم على الخبث في الحياة لأنهم في الصل بلا وازع من دين ولا رادع من أخلاق , لا شيم ولا قيم تمنعهم من ممارساتهم الدنيئة . وهي تظهر من فئات اللئام الذين عناهم المتنبي في بيت الشعر الشهير : إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا فالكرام لا يقبلون مثل تلك التصرفات التافهة والعمال الحقيرة , وإنما هي من طبائع اللئام الذين يعلمون في قرارة أنفسهم بأنهم بلا قيمة ولا وزن , فيقدمون على تصرفاتهم الشوهاء بالجحود والنكران , وزيادة على ذلك الإساءة لمن تفضل عليهم . ولعل شاعر الحكمة الجاهلي زهير بن أبي سلمى قد لخص مثل تلك الحالة في البيت الصارخ من معلقته الشهيرة : ومن يصنع المعروف في غير أهله يكن حمده ذما عليه ويندم وهو ما يتفق فعلا مع حالة تلك المرأة المكلومة مرتين التي أسدت معروفا كبيرا في غير أهله فأصبحت في حالة حسرة وندم , لأنها لم تكن تعرف بأنها تقدم الجميل لمن لا يستحقه , لتقابل بالفصل والطرد من العمل والعيش بكلية واحدة بعد أن منحت الثانية لزميلتها التي لا تعرف ليس معنى الإنسانية .