تنيضب الفايدي الوطن.. عديلُ الروح في كتاب الله, فقد شبّه سبحانه وتعالى إخراج العبد من وطنه بإخراج روحه من جسده, حيث قال: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) سورة النساء الآية (66), فأتى الله سبحانه وتعالى بأصعب أمرين: إخراج الروح من الجسد، وإخراج الجسد من الوطن. كما أحبّ الأنبياء والرسل قبل سيّدهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أوطانهم، لذلك كان أكبر تهديد قابلوه من قومهم هو إخراجهم ومن آمن معهم من وطنهم،فهذا نبي الله شعيب عليه السلام قد هدده قومه بالإخراج من الوطن هو ومن آمن معه قال تعالى ( قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين ) سورة الأعراف الآية (88). وهذا نبي الله لوط عليه السلام قد هدده قومه بإخراجه من الوطن قال تعالى ???? وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) سورة الأعراف الآية (82) واستخدم الخروج من الوطن بالتخويف قال تعالى ( قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحرٌ عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون). سورة الأعراف الآية (109-110) ، فماذا تعني كلمة الوطن التي تعادل الروح، الوطن.. هذا المكان الذي ارتبط به الإنسان، وسكنه روحاً وجسداً، وهام به حباً وحنيناً، هام بصحرائه الواسعة، وجباله المتنوعة، وأوديته باختلاف أبعادها، كما هام بسمائه وجمالها،وهوائه بنسيمه ورياحه، ورياضه المزهرة، ومراتعه الممرعة، وخيرات مزارعه،كما أحب بحاره بشواطئها الجميلة وسواحلها الساحرة. ولاشك أن ارتباط حب الإنسان بالوطن من الأمور الفطرية التي جُبل الإنسان عليها، فلا يمكن له أن ينسى ما حوله من الجبال العالية والبحار الواسعة العميقة والسهول الجميلة والغابات الخضراء والأنهار والبحيرات والشلالات الجذابة وغيرها من الأشياء مما خلقها الله، فليس من المستغرب أن يحبّ الإنسان وطنه الذي نشأ على أرضه وعاش تحت سمائه، وشبَّ على ثراه، وترعرع بين جنباته،وأكل من خيراته وشرب من مياهه، كما ليس من المستغرب أن يحنّ الإنسان إلى وطنه عندما يُغادره إلى مكانٍ آخر، فما ذلك إلا دليلٌ على قوة الارتباط وصدق الانتماء. و قد جاء الإسلام ليثبت هذا الحب، فقد بين الله تعالى فضل الوطن بقوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} سورة البقرة الآية (84) ، حيث جعل الخروج من الديار بمقام قتل الأنفس. وقد عبّر كثيرٌ من الشعراء عن حبّ الديار ( أي: الأوطان ) بدءاً بشعراء الجاهلية والعصور الإسلامية المتتالية وما أكثر ما قال أولئك عن حبّ الوطن ، ولكن سأركّز في مقالي هذا عن أشهر ما قال شعراء العصر الحديث تمجيداً بحبّ الوطن . حيث يقول خير الدين الزركلي : العين بعد فراقها الوطنا لاساكناً الفت ولا سكنا ريانة بالدمع ، أقلقها ألا تحسّ كرى و لاوسنا كانت ترى في كل سانحةٍ حسناً ، وبانت لا ترى حسنا والقلب لولا أنَّةٌ صعدت أنكرته وشككت فيه أنا ليت الذين أحبهم علموا وهم هنالك ما لقيت هنا ما كنت أحسبني مفارقهم حتى تفارق روحي البدنا أما أمير الشعراء احمد شوقي … فقد أكثر في حب الوطن وأصبحت قصائده في الوطن، وبعض أبياتها شواهد يتمثل بها كل محب لوطنه ومن أشعاره : لاتلوموها ، أليست حرةً وهوى الأوطان للأحرار دين؟ وقال أيضاً : في هوى الأوطان مقدرةٌ لذوي الأخلاق والفطن أنت في فقرٍ إذا افتقرت وإذا استغنت فأنت غني وإذا عزت عززت بها وإذا هانت فرح فهن إن إنساناً تقابله ليس إنساناً بلا وطن وقال أيضاً : ويا وطني لقيتك بعد يأسٍ كأني قد لقيت بك الشبابا وقال في غربته تشوقاً إلى وطنه : وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي شهد الله لم يغب عن جفوني شخصه – ساعةً – ولم يخل حسي وقال أيضاً : إنما الشرق منزلٌ لم يفرّقْ أهله، إن تفرقت أصقاعه وطنٌ واحدٌ على الشمس والفص حي ، وفي الدمع والجراح اجتماعه وقال أيضاً: وللأوطان في دم كل حُرٍّ يد سلفت ودين مستحق وللحرية الحمراء باب بكل يدٍ مضرجةٍ يدق وقال أيضاً : وطني أسفت عليك في عيد الملا وبكيت من وجدٍ ومن إشفاق لاعيد لي حتى أراك بأمةٍ شماء راوية من الأخلاق وللوطن حقوق يذكرها الشاعر حافظ إبراهيم : رجال الغد المأمول إن بلادكم تناشدكم بالله أن تتذكروا عليكم حقوق للبلاد أجلها تعهد روض العلم، فالروض مقفر قصارى مني أوطانكم أن ترى لكم يداً تبتني مجداً ورأساً يفكر فكونوا رجالاً عاملين أعزة وصونوا حمى أوطانكم وتحرروا وكم ردد الشباب ما قاله مصطفى صادق الرافعي: بلادي هواها في لساني وفي دمي يمجدها قلبي ويدعو لها فمي ولا خير فيمن لا يحب بلاده ولا في حليف الحب إن لم يتم وعبر شعراء المهجر على بعدهم عن شدة الشوق والجوى للوطن حيث قال جورج صيدح: وطني طيفك ضيفي في الكرى كلما أطبقت جفنيّ رقد يتجنى فإذا ملت إلي ضمه أعرض عني وابتعد أترى طيف بلادي مثلها كلما رق له القلب استبد وها هو الشاعر نزار قباني يبرز حبه للوطن ضمن قصيدةٍ بدأها : أتراها تحبني ميسونُ أم توهَمت والنساء ظنونُ كم رسولٍ أرسلته لأبيها ذبحته تحت النقاب العيونُ ثم يقول: ما وقوفي على الديار وقلبي كجبيني قد طرزته الغضون هل مرايا دمشق تعرف وجهي من جديدٍ، أم غيرتني السنين هل هي الشام بعد فرقةٍ دهرٍ أنهر سبعة، وحور عين النوافير في البيوت كلام والعناقيد سكر مطحون ويطلب من الوطن أن يحتضنه: احتضني ولاتناقش جنوني ذروة العقل، يا حبيبي ، الجنون أهي مجنونة بشوقي إليها هذه الشام أم أنا المجنون