حب الوطن غريزة فطرية جُبل عليها الإنسان مذ وُجد، والتمسك به والانتماء إليه ظاهرة إنسانية، ملازمة له في مختلف الأزمان، وعلى مر العصور، والحنين إليه شعورٌ متأصل بين جنبيه، يعكس سمو روحه ونبل أرومته، وفي ذلك يقول الأصمعي: دخلت البادية، فنزلت على بعض الأعراب، فقلت: أفدني، فقال: إذا شئت أن تعرف وفاء الرجل، وحسن عهده، وكرم أخلاقه، وطهارة مولده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه. وقد صور القرآن الكريم ظاهرة حب الوطن والتمسك به تصويراً رائعاً حين جعل الخروج من الديار معادلاً قتل النفس، حيث قال الله تعالى: {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتا} سورة النساء آية 66. وقد أخرج الترمذي في جامعه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكة حين هاجر منها إلى المدينة «ما أطيبك من بلد، وما أحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك». وها هو الصحابي الجليل بلال بن رباح - رضي الله عنه - حين هاجر من مكة إلى المدينة، وقد استبدت به الحمى، فأخذ لسانه يجري بذكر مرابع صباه ومدارج شبابه في مكة رافعاً عقيرته: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل وفي حب الأوطان والحنين إليها يقول الجاحظ في رسالته الحنين إلى الأوطان: كانت العرب إذا غزت أو سافرت حملت معها من تربة بلدها رملاً وعفراً تستنشقه. ومن هذا الحنين الطاغي، القوي، اللاهب المشاعر، أبيات لأبي زياد الطائي الذي لم ينس داره ولا قومه، ولا تلك البلاد التي ربته ورعته، وبها نيطت عليه تمائمه، وقضى فيها عصر الصبا، بين قومه وأحبابه، والتي هجرها مكرهاً فقال: أحقاً عباد الله أن لست ناسيا بلادي ولا قومي ولا ساكناً نجدا ولا ناظراً نحو الحمى يوماً نظرة أسلي بها قلبي ولا محدثاً عهدا بلاد بها نيطت علي تمائمي وكان بها عصر الصبا نضراً رغدا بلاد بها قومي وأرض أحبها وإن لم أجد من طول هجرتها بدا ولا يقتصر الارتباط بالوطن والحنين إليه على بني الإنسان، بل إن ذلك ليمتد ليشمل الحيوانات أيضاً؛ ففي طائر السمان مثال بديع على هذا الارتباط؛ حيث يسافر هذا الطائر في موسم الشتاء إلى المناطق الدافئة، وما إن يأتي موسم الربيع إلا ونجد الطائر قد عاد إلى وطنه الأول، وإلى الشجرة نفسها التي كان عليها؛ ليعيد بناء عشه. كذلك سمك السلمون يغادر كولومبيا، ويسافر آلاف الأميال إلى الأماكن التي يعرفها في الباسفيك؛ ليتغذى هناك، وعندما تقترب دورة الحياة من النهاية يعود السلمون إلى البحر نفسه الذي أتى منه، وهو يكافح في طريقه عبر المنحدرات، والمياه الضحلة الصخرية، ويرفض أن يتوقف إلى أن يصل إلى المنعطف نفسه الذي تربى فيه في النهر. وحب الوطن والحنين إليه عند أسوياء الفطرة غير مرتبط ولا مرتهن بما أولاهم الوطن من أنعم وصفاء عيش، ولو كان الأمر على هذا النحو ما كنا رأينا حب الوطن متجذراً بقوة في أعماق روح الإنسان العربي الذي عاش في بادية قاحلة، يغلب عليها شظف العيش وقسوته؛ حيث لا يقر له فيها قرار؛ فهو دائم الترحال طلباً للعيش وسعياً وراء الماء والكلأ؛ لنقرأ في ما وصل إلينا من ديوان العرب شعراً يفيض بالبوح الصادق والشجي في حب الوطن والحنين المتأجج إلى المنازل والديار في مختلف عصور الشعر. وفي هذا الصدد أي وجد شف ميسون بنت بحدل الكلبية إلى باديتها وهي تعيش في رفاهية قصور الخلافة الإسلامية في دمشق زوجة لأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وما الذي دعاها إلى تفضيل شظف عيش البداوة على ترف العيش في المدينة، وأي عاطفة جعلتها تنشد أبياتها المعروفة وتقارن فيها بين الحياتين لتنتصر لحياة البادية، وتروي كتب التاريخ أن هذا الحنين كان سبباً في طلاقها من الخليفة. إنها صحراء موحشة، وقطعة من الأرض قاحلة، لكنها عند ميسون وطن تألفه النفس، وتعشقه الروح، ويتعلقه القلب.. فالوطن حبيب، أخصب أم أجدب، أعطى أم منع، أسعد أم أشقى، أغنى أم أفقر، حسن أم قبح، ومن ذلك قول الشاعر: بلاد ألفناها على كل حالة وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن ونستعذب الأرض التي لا هواء بها ولا ماؤها عذب لكنها وطن فالديار تصون كرامة الإنسان، وفيها يشتد عوده، ويقوى ظهره، وفي التغرب ذُلٌّ وضَعف وضياع نفس.. وقد ذم الكثيرون التغرب عن الأهل والأوطان حتى وإن كان في ذلك إبدال من حال إلى حال أفضل، وذلك ما أشار إليه الشاعر في قوله: لقرب الدار في الإقتار خير من العيش الموسَّع في اغتراب ومع هذا الحب الكبير والوشائج القوية بين العربي وأرضه، التي نلمسها في النبرة العالية في ديوان الشعر العربي، إلا أن هناك من يدعو إلى التغرب والبحث عما هو أفضل بعيداً عن الوطن، وقد خلدت قصيدة ابن زريق البغدادي (لا تعذليه)، التي قالها حين أراد الرحيل عن بغداد سعياً وراء طلب الرزق، وتعد يتيمته من عيون الشعر العربي في مفارقة الأحبة والوطن. وتختلف طبيعة هذه الدعوة باختلاف الظروف القاهرة التي قادت الشاعر إلى المناداة بالرحيل والتغرُّب عن أرضه، وليس من عيب في أن ينشد المرء لنفسه ما يراه خيراً مما هو فيه، ولكن المعيب هو أن ينشر مثالب قومه، وينتقص من أرضه وعزتها، ظناً منه أن أرضاً قاصدها قد تمنحه العزة والكرامة.. لا عزة من دون وطن، ولا كرامة من دون انتماء إليه مهما كانت قسوة الوطن، ولِمَ لا نسأل أنفسنا ما الذي قدمناه للوطن؟ ولِمَ هو سؤالنا الدائم ما الذي قدمه لنا الوطن؟؟ آخر القطرات تحية إجلال لصاحب هذا البيت: بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام