أيها الأحبة : أستميحكم عذرا ، فاعذروني ، إذ إني اليوم سأكسر قاعدة ألفتموها ، وسأحدثكم عن حبيبتي ، التي أرتمي بين أحضانها في المساء ، وأسعد برؤية وجهها في الصباح ، ولم تستطع وجوه كثيرة أن تغريني ، فلا يصرف وجهي عن محبوبتي كل الملاح . وإذا ما غبت عنها هزني الشوق إليها ، فما ألبث أن أعود ، فأرتمي في حضنها الدافئ ، لأشعر بالأمان ، حيث لا أشعر به وأنا عنها بعيد ، فهي حصني الذي أحتمي فيه ، وهي ركني الشديد . بعيدا عنها أصبح لقمة للأعادي ، فحق لي أن أفتديها بمالي ، وأولادي ، وأن أسكنها سويداء فؤادي ! حبيبتي هذه حاول كثيرون أن يصرفوا قلبي عن حبها ، فزعموا أن حبها ينقض الدين ، وزعموا أن حبها شرك برب العالمين ، وزعموا أن حبها يفرق المسلمين ، فبذلوا غاليا ورخيصا ليخبو ما في قلبي لها من حب وشوق وحنين ! لكن كلما بذلوا لنزع الحب من قلبي لها ، زاد في قلبي لها الغرام ! فأكتمه ، ولكن العاشق مفضوح ، يفضحه الصمت منه ، قبل الكلام ! نسيت أن أقول لكم إن حبيبتي هذه ليست امرأة ، إنها مملكة عظيمة ، وبلاد فسيحة ، غطاها وبل من الغمام ، فانتشت أرضها بعبق دين الإسلام ! هي فتية وإن ظنها الناس شابت فقد بلغت الثمانين ، ولكنها تباهي بتاريخها الأقدمين ، وتسابق في تطورها المتحضرين ،. وحبها ليس بدعا من الحب ، فقد قال سبحانه « وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين » ، وضع خطا تحت يخرجوك ، فإن إخراج المرء من وطنه بلاء ، وأي بلاء . ويزيد ذلك وضوحا قوله جل في علاه « ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين » . وانظر إلى الفضل العظيم لمن امتدح الله تعالى بذلهم وقتالهم في سبيله فقال عنهم « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير . الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز » واسمع وصف أولي الألباب في آخر آل عمران « فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار » . وتأمل يا رعاك الله قوله جل وعلا « لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين . إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون » . فنهى عن موالاة ومودة من أخرجنا من أوطاننا . وليس ببعيد منهم من يريد منا أن نبغض أوطاننا ، وأن نكره بلادنا ! ولو تفكروا في قوله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد أن أخرج من أحب الديار إليه « إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا » فجعل الإخراج من الوطن موجبا للنصرة . وإنما احتج المشركون – كذبا – فقالوا « إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا » أي إنهم يخشون أن يغلبوا على وطنهم ، وأرضهم من الأعداء ، فرد الله عليهم بقوله « أولم نمكن لهم حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا » . وكان من ترطيب فؤاد الحبيب صلى الله عليه وسلم أن وعده الله تعالى أن يرده إلى البلد التي أخرج منها فأنزل عليه وهو في الجحفة ، قوله « إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد» قال ابن عباس رضي الله عنهما : إلى مكة. رواه البخاري . ثم انظر عبر نافذة التاريخ ، ناحية اليمن ، واقرأ منة الله على أهل سبأ بقوله « لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور » . هذا من نصوص الكتاب المجيد ، وأما من نصوص كلام ، وسيرة سيد المرسلين ، صلى الله عليه وسلم فما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال ، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول : كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته يقول : ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل قال : اللهم العن شيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف ، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا وصححها لنا ، وانقل حماها إلى الجحفة. قالت وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله قالت : فكان بطحان يجري نجلا تعني ماء آجنا. أخرجه البخاري وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة : ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك . أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح . وعن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته وإن كانت دابة حركها من حبها. أخرجه البخاري . أما ترى أنه جعل من حد الزاني غير المحصن أن يغرب عن بلده عاما ؟ فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم . أخرجه مسلم . وكيف يعاب علي أن أحب التراب ، وأفتديه ، وهذا حبيبنا صلى الله عليه وسلم كما ورد عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم من خيبر حتى إذا أشرفنا على المدينة ، نظر إلى أحد فقال : هذا جبل يحبنا ونحبه . متفق عليه . وكيف يعاب علينا وقد جعل الأمن في السرب ، من أهم أركان الحياة الدنيا ، كما أخرج الترمذي ، عن سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي عن أبيه وكانت له صحبة قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا. وذكر الحافظ بن حجر في الإصابة ، عن الزهري قال : قدم أصيل الغفاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قبل أن يضرب الحجاب على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له عائشة: كيف تركت مكة؟ قال اخضرت أجنابها ، وابيضت بطحاؤها ، وأعذق إذخرها ، وانتشر سلمها . الحديث . وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حسبك يا أصيل لا تحزنا . ورواه أبو موسى في " الذيل " من وجه قال قدم أصيل الهذلي فذكر نحوه باختصار وفيه فقال : له النبي صلى الله عليه وسلم : ويها يا أصيل ، دع القلوب تقر . وروى الجاحظ في رسالة الحنين إلى الوطن أن العرب كانت إذا غزت ، أو سافرت ، حملت معها من تربة بلدها رملاً ، وعفراً تستنشقه . لما اتصلت ميسون بنت بحدل الكلبية بمعاوية رضي الله عنه ونقلها من البدو إلى الشام كانت تكثر الحنين على ناسها والتذكر لمسقط رأسها، فاستمع إليها ذات يوم فسمعها تنشد وتقول : لبيت تخفق الأرواح فيه أحب إلي من قصر منيف وأكل كسيرة في كسر بيتي أحب إلي من أكل الرغيف وأصوات الرياح بكل فجٍ أحب إلي من نقر الدفوف ولبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف وكلب ينبح الطراق حولي أحب إلي من قط ألوف وبكر يتبع الأظعان صعبٌ أحب إلي من بغل زفوف وخِرْقٌ من بني عمي نحيفٌ أحب إلي من علج عنيف قال الراوي : فلما سمع معاوية الأبيات قال : ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني علجاً عنيفاً. وقد كان الشافعي رحمه الله ، ولد في غزة ، لكنه رحل عنها لطلب العلم ، وكان كثير الشوق والحنين لها ، ومن شعره : وإني لمشتاق إلى أرض غزةٍ وإن خانني بعد التفرق كتماني سقى اللهَُ أرضاً لو ظفرتُ بتُربها كحلتُ به من شدة الشوق أجفاني وقد قالت العرب قديما : إن من علامات الرشد أن تكون النفس إلى بلدها تواقة ، وإلى مسقط رأسها مشتاقة . وقال ابن الرومي : وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا وقال أحد شعراء البادية : نعشق الأرض التي لا هواء بها ولا ماؤها عذب ولكنها وطن فلا تلوموني أيها الأحبة ، إن أحببت الرياض ، وغبارها ، واشتقت إلى لفحة من سمومها ، فيكفي الرياض فخرا أنها عاصمة الوطن ، ونبض قلبه ! وهل يلام من أحب جزيرة العرب ؟ هل يلام من لثم أرضها ، وحن إلى جبالها ، وأُحد أحد هذه الجبال ، ولا تنس جبلا فيه غار حراء ، ولا جبلا آوى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الهجرة ، ولا مسجدا كان منطلقا للإسراء . وانظر إلى يثرب يكسوها الفرح ، وتتزين فقد حان اللقاء ، وها هي رجل المصطفى ستطأ الأرض التي سيكون فيها روضة غناء ، ليست من الأرض ، لكنها قطعة من جنة عليا ، ما هذا البهاء ؟ فاسلم يا وطني ، وليحمك الله من غدر الكائدين ، وليمنحك الأمان على مر السنين ، ولتهنأ برغد من العيش يغيض الحاقدين . وأظن الكاتب والفيلسوف الإنجليزي توماس كاريل ، قد صدق حين قال : جميل أن يموت الإنسان من أجل وطنه ، ولكن الأجمل أن يحيى من أجل هذا الوطن . اللهم احفظ مملكتنا بحفظك ، واكلأها برعايتك ، وجد عليها من واسع فضلك ، واحرسها بعينك التي لا تنام ، واكنفها بركنك الذي لا يضام ، واحفظ أمنها من كيد الكفرة اللئام ، وإفساد الخارجين على الإمام ، اللهم من سعى فيها بشر أو فتنة فرده على عقبيه ذليلا حقيرا ، وسلط عليه من جنود الأمن سيفا شهيرا ، وأوقعه في أيديهم قتيلا أو أسيرا . اللهم ارحم إماما بجهاده على كتابك اجتمعنا ، ولسنة نبيك صلى الله عليه وسلم خضعنا ، اللهم تول عنا جزاءه ، وأجزل يوم العرض عليك عطاءه .