لما حانت لحظة تغيير مسار التاريخ الانساني، خرج المصطفى صلى الله عليه وسلم من بيته، واخذ حفنة من التراب، ونثره على رؤوس الاشقياء، الذين اشهروا سيوفهم ظنا منهم ان ذلك سوف يوقف انتشار النور في الآفاق.! وسار الهادي البشير، صلى الله عليه وسلم، في ليلة خروجه الى دار صاحبه، رضي الله عنه، الذي كان قد قال قبل ساعات: "الصحبة يا رسول الله"، عندما اتاه الرسول، صلى الله عليه وسلم، في الظهيرة واخبره ان الله قد اذن له بالهجرة، وخرجا من خوخة في ظهر بيت الصديق، واتجها نحو الجنوب، بينما دار الهجرة تقع في الشمال، وكان تغيير الاتجاه في بداية الهجرة جزء من الخطة، وسار في طريقهما على اضواء نجوم الصحراء التي كانت تتلألأ ابتهاجا بالليلة الاولى من ليالي الهجرة النبوية الشريفة. ووصلا بعد حوالى ساعتين الى المحطة الاولى على طريق الهجرة، وصعدا جبل تلك المحطة، ودخلا غار ثور، ومكثا في هذه المحطة المهمة ثلاث ليال. وخلد القرآن الكريم هذه المحطة الصخرية في قوله تعالى: "الا تنصروه فقد نصره الله اذ اخرجه الذين كفروا ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا) التوبة (40). ومكثا في الغار بكل اطمئنان بينما فرسان الجاهلية يمسحون الشعاب والوديان والدروب بحثاً عنهما. وهما بالقرب منهم. ونسأل هنا، ما سر وجود هذه المحطة في مكانها الجبلي؟ ثم يتكون غار ثور بين ليلة وضحاها، بل استغرق تكوين الغار في جبله المعروف بصخوره الصلدة، آلاف السنين، عملت خلالها عوامل التجوية، اي مياه الامطار والحرارة، والبرودة والرياح وما تحمله من دقائق رملية، على حفرعه في جبل. اذن، لم تكن نشأت الغار كتجويف صخري في ذلك المكان مصادفة، بل يمكن القول هي دليل على حدث الهجرة ومسارها المكاني كما قدر ذلك مسخر النواميس. فالغار رسالة حفرت في الصخر لقوم يتفكرون. ولما اصاب اشرار الفرسان اليأس، عادوا بالخذلان، بعد ان كان كل واحد منهم يطمع في الحصول على المائة ناقة، هذه جائزة وضعت لمن يستطيع اطفاء نور الحق الذي انطلق. وتحرك موكب الهجرة من محطته الاولى باتجاه الشمال الغربي، قاصدا طيبة الطيبة. مأرز الايمان، وجرى رصد الموكب بعين من العيون ، وامتطى احد الفرسان حصانه ، وتتبع الدرب الذي سلكه الموكب النبوي. وكان الموكب قد سلك طريق ساحل البحر الأحمر، وأخذ يجتاز مصبات الوديان، المنحدرة من الشرق باتجاه الساحل ، الواحد بعد الآخر، واجتاز موكب النور مصب وادي قديد، ثم مر بخيمتي ام مفيد، ثم ثنية المشلل، ثم بدأ باجتياز مصب وادي دوران، وعلى مرأى من جبل فرسان الرخامي الشامخ، بقمته المترفعة لنحو سبعمائة متر فوق سطح البحر، ويقع مصب وادي دوران حاليا الى الشمال الشرقي من قرية القضيمة. وفي مصب وادي دوران رأى ذلك الفارس موكب الهجرة عليه. طمعاً بالجائزة الثمينة ، ولكن ساخت يدا الفرس في الحبيبات الرملية، التي تراكمت على مصب الوادي، وسقطت الفارس ارضا. وكان الفارس قد عثر به الحصان، وسقط في موضعين قبل رؤيته لموكب النور! دارت في ذهن ذلك الفارس تساؤلات عن الحادثين اللتين جرتا له منذ خروجه من مكةالمكرمة، ولكن عندما ساخت يدا فرسه في تلك الرمال وهو قريب من ركب الهجرة، فقال بأعلى صوته: "انا سراقة بن جعثم، انظروني اكلمكم، فوالله لا اريبكم، ولا يأيتكم مني شيء تكرهونه"، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم، لأبي بكر إسأله: "وما تبغي منا؟ فسأله ابو بكر، فقال: "تكتب وتوقف عند مصب ذلك الوادي ونقول: لم تستخرج عوامل التجوية الحجاة وشظاياها من الجبال ثم تفتتها الى حبيبات رملية في مسيرتها نحو المصب عبر عشرات القرون هدراً، ولم تجمعه المياه الجارية تلك الرمال عند المصب عبثاء، ولم تتخذ الحبيبات الرملية اشكالا رخوة في المصب عن طريق المصادفة ، لقد قدر لها مسخر السنن الكونية ان تؤدي دورها التاريخي، فكانت تلك الحبيبات الرملية جنودا دافعت عن مسيرة الهجرة النبوية.! لم يدر بخلد الجاهليين المحاربين للاسلام في السنة الاولى من الهجرة، ولا يدور بخلد اعوانهم في القرن الخامس عشر الحالي، ان تقوم الحبيبات الرملية التي يمكن ان تذرها الرياح، بالدفاع عن دعوة الحق والبناء، للمجتمعات الانسانية، لان الجاهلية الاولى العصرية لا تفكران إلا في نشر الباطل والدمار فاشقياء اليوم هم امتداد لاشقياء الامس الذين اشهروا اسلحتهم في الليلة الاولى من الهجرة!!