إنَّ على الداعية في دعوته إلى الله عزّ وجل أن لا يغفل أنَّه عبد لله تعالى يتعبَّد لربِّه سبحانه بدعوة نفسه والنَّاس إلى عبادة الله عزّ وجل وحده لا شريك له، ويريد من ذلك إرضاء مولاه سبحانه بادئ ذي بدء، وإنقاذ نفسه والنَّاس الذين يدعوهم من الظلمات إلى النور ومن الشقاء إلى السعادة. وإنَّ المحافظة على هذه الأهداف النبيلة وعدم الغفلة عنها لَمِنْ أعظم الأسباب التي يتقي بها الداعية شرّ هواه وردود أفعاله والتي غالباً ما يغيب فيها العقل والشرع ويسيطر فيها الهوى ودوافع النّفس وحظوظها. وهذا شيء يلاحظه الإنسان من نفسه ومن غيره، فما إن يغفل العبد عن نفسه وإلزامها بالعبودية لله عزّ وجل في جميع تصرُفاتها وأحوالها ومن ذلك الدعوة إلى الله عزّ وجل إلاّ ويجد الهوى قد تسرَّب إلى قلبه وبدأت حظوظ النَّفس تسيطر على بعض المنطلقات في الدعوة إلى الله عزّ وجل، وهنا يبدأ الخطر، وتمرض القلوب، وتتعرَّض الأعمال للضياع والعياذ بالله تعالى. ويظهر هذا جليَّاً في مواطن الاختلاف والردود التي تحصل بين أهل العلم، ولا يخفى ما ينشأ عن ذلك من رد للحق وتعصُّب للباطل وتقديس للرجال وظلم للمخالف وبخسه حقّه. والهوى خطره عظيم، فهو الذي جعل الكفَّار يتعصَّبون لكفرهم وما كان عليه آباؤهم، مع علمهم ببطلان ما هم عليه، وأنَّ ما تدعوهم إليه الرسل هو الحقُّ المبين، وهو الذي يوقع الفسّاق في مهاوي الرذيلة والفساد، وهو الذي يوقع بعض أهل العلم في ردِّ الحق والتعصب لما هم عليه وأشياخهم ولو كان باطلاً. ونظراً لما للهوى من الخطر العظيم والمفاسد الكبيرة على العباد في شتّى الأزمنة والأمكنة والأحوال، فإنَّه يحسن الوقوف عند الأسباب التي تدفع إلى إتباع الهوى وبالتالي معرفة العلاج والأدوات التي تُتقى به هذه الأسباب حتى يكون هوى العبد تبعاً لمرضاة الله عزّ وجل. وإنَّ التخلُّص من الهوى أو التقليل منه قدر المستطاع ليُعدُّ السبب النافع والعلاج الناجع بإذن الله تعالى لأمراض الفرقة والتعصُّب والتحزُّب؛ والتي إن قُضي عليها فقد فتح باب الأمل في وحدة المسلمين واجتماعهم، وبخاصة أهل العلم منهم والدعاة، والذي هو بدوره باب إلى النصر والتمكين وظهور الإسلام على الدين كله ولو كره المشركون. ذكر الشيخ "عبدالرحمن المعلمي" رحمه الله تعالى في كتابه النفيس "التنكيل" مجموعة من الأسباب التي توقع في الهوى والتعصُّب وردِّ الحق، ثمّ أعقبها بذكر العلاج أسوقها للقارئ الكريم مختصرة لفائدتها. قال رحمه الله تعالى: "ومخالفة الهوى للحقِّ في الاعتراف بالحق من وجوه": الأوَّل: أن يرى الإنسان أنَّ اعترافه بالحقِّ يستلزم اعترافه بأنََّه كان على باطل، فالإنسان ينشأ على دين أو اعتقاد أو مذهب أو رأي يتلقاه من مربِّيه ومعلِّمه على أنَّه حق؛ فيكون عليه مدَّة ثم إذا تبيَّن له أنَّه باطل شقَّ عليه أن يعترف بذلك، وهكذا إذا كان آباؤه أو أجداده أو متبوعه على شيء، ثم تبيَّن له بطلانه، وذلك أنَّه يرى أنَّ نقصهم مستلزم لنقصه، فاعترافه بضلالهم أو خطئه اعتراف بنقصه. الوجه الثاني: أن يكون قد صار له في الباطل جاه وشهرة ومعيشة، فيشقَّ عليه أن يعترف بأنَّه باطل فتذهب تلك الفوائد. الوجه الثالث: الكِبْر، يكون الإنسان على جهالة أو باطل فيجيء آخر فيبيِّن له الحجَّة، فيرى أنَّه إن اعترف كان معنى ذلك اعترافه بأنَّه ناقص، وأنَّ ذلك الرجل هو الذي هداه، ولهذا ترى من المنتسبين إلى العلم من لا يشقّ عليه الاعتراف بالخطأ إذا كان الحقُّ يتبيَّن له ببحثه ونظره، ويشقّ عليه ذلك إذا كان غيره هو الذي بيَّن له. الوجه الرابع: الحَسَد، وذلك إذا كان غيره هو الذي بيَّن الحق، فيرى أنَّ اعترافه بذلك الحق يكون اعترافاً لذلك المبين بالفضل والعلم والإصابة، فيعظم ذلك في عيون النَّاس، ولعلَّه يتبعه كثيرٌ منهم، وإنَّك لتجد من المنتسبين إلى العلم من يحرص على تخطئة غيره من العلماء ولو بالباطل حسداً منه لهم، ومحاولةً لحطِّ منزلتهم عند النّاس. ثمَّ أخذ رحمه الله تعالى بعد ذلك يذكر بعض الصور التي تكون عند بعض أهل العلم ويكون دافعها الهوى والتعصُّب فيقول: ".. فتجد ذا الهوى كلَّما عرض عليه دليل لمخالفيه أو ما يوهن دليلاً لأصحابه شقَّ عليه ذلك واضطرب واغتاظ وسارع إلى الشغب، فيقول في دليل مخالفيه: هذه شبهة باطلة مخالفة للقطعيّات، وهذا المذهب مذهب باطل لم يذهب إليه إلا أهل الزيغ والضلال.. ويؤكِّد ذلك بالثناء على مذهبه وأشياخه، ويعد المشاهير منهم ويطريهم بالألفاظ الفخمة، والألفاظ الضخمة، ويذكر ما قيل في مناقبهم ومثالب مخالفيهم، وإن كان يعلم أنَّه لا يصحّ أو أنَّه باطل، ومن أوضح الأدلّة على غلبة الهوى على أكثر النَّاس أنَّك تراهم على أديان مختلفة ومقالات متباينة، ومذاهب متفرِّقة، وآراء متدافعة ثمَّ تراهم كما قال الله تبارك وتعالى: ]كُلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون[ [المؤمنون:53]، [الروم:32]. فلا تجد من ينشأ على شيء من ذلك ويثبت عليه يرجع عنه إلاّ القليل، وهؤلاء القليل يكثر أن يكون أوّل ما بعثهم على الخروج عمَّا كانوا عليه أغراض دنيوية.واستمر في ذكر بعض صور إتباع الهوى، فقال: * ".. افرض أنَّك قرأت آيةً فلاحَ لك منها موافقة قول لإمامك، وقرأت أخرى فلاحَ لك منها مخالفة قول آخر له، أيكون نظرك إليهما سواء؟ لا تبالي أن يتبيّن منهما بعد التدبُّر صحّة ما لاح لك أو عدم صحّته. * افرض أنّك وقفت على حديثين لا تعرف صحّتهما ولا ضعفهما، أحدهما يوافق قولاً لإمامك والآخر يخالفه، أيكون نظرك فيهما سواء، لا تبالي أن يصحّ سند كلّ منهما أو يضعف؟ * افرض أنَّ رجلاً تحبَّه وآخر تبغضه تنازعا في قضية فاستفتيت فيها ولا تستحضر حكمها وتريد أن تنظر.. ألا يكون هواك في موافقة الذي تحبَّه؟ * افرض أنَّك تعلم من رجل منكراً وتعذر نفسك في عدم الإنكار عليه، ثمَّ بلغك أنَّ عالماً أنكر عليه وشدَّد النكير، أيكون استحسانك لذلك سواء فيما إذا كان المنكر صديقك أم عدوك، والمنكر عليه صديقك أم عدوك؟ * فتِّش نفسك تجدك مبتلى بمعصية أو نقص في الدين، وتجد من تبغضه مبتلى بمعصية أو نقص آخر ليس في الشرع بأشدّ ممّا أنت مبتلى به، فهل تجد استشناعك ما هو عليه مساوياً لاستشناعك ما أنت عليه، وتجد مقتك نفسك مساوياً لمقتك إياه؟ وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من أن تحصى وقد جرَّبت نفسي أنَّني ربما أنظر في القضية زاعماً أنَّ لا هوى لي فيلوحُ لي فيها معنى، فأقرره تقريراً يعجبني ثمَّ يلوح لي ما يخدش فيّ ذاك المعني فأجدني أتبرَّم بذلك الخدش وتنازعني نفسي إلى تكلُّف الجواب عنه، وغضّ النظر عن مناقشة ذاك الجواب، وإنَّما هذا لأنّي لمَّا قررتُ ذاك المعنى أولاً تقريراً أعجبني صرت أهوى صحّته هذا مع أنَّه لم يعلم بذلك أحد من النّاس، فكيف إذا كنت قد أذعته في النّاس ثمَّ لاح لي الخدش؟ فكيف لو لم يلح لي الخدش، ولكن رجلاً آخر اعتراض علي به؟ فكيف لو كان المعترض ممَّن أكرهه؟ والواجب على العالم وطالب العلم أن يفتِّش عن هوى نفسه حتى يعرفه ثمَّ يحترز منه ويمعن النظر في الحقّ من حيث هو حق، فإن بان له أنَّه مخالف لهواه آثر الحقّ على هواه؟؟". وبعد هذا الكلام الجيّد عن أسباب الوقوع في الهوى وردّ الحق والتعصُّب للباطل وبعد ذكر الأمثلة لذلك، يحسن ذكر بعض الوسائل المعينة على تجنُّب الهوى وقبول الحقّ. إنَّ الوقوع في الباطل والضلالة بسبب الجهل يكون علاجه بالعلم والبصيرة في الدّين. أمَّا البقاء على الباطل بعد تبيُّن بطلانه وردّ الحق بعد ما تبيَّن أنَّه الحقُّ، فإنَّ علاج هذا المرض الخطير لا ينفع به العلم وإزالة الشبهة؛ لأنَّ سببه الهوى والتعصُّب وليس الجهل والشبهة، ومثل هذا لا ينفع فيه إلا أن يُذكّر بتقوى الله عزَّ وجل والخوف من عقابه سبحانه، كما يذكر بشرف الحق وإتباعه والثواب العظيم الذي يكتبه الله عزّ وجل للمتبعين للحق والمؤثرينه على أهوائهم وشهواتهم؛ وفي ذلك يقول المعلّمي رحمه الله تعالى: "هذه أمورٌ ينبغي للإنسان أن يقدم التفكير فيها ويجعلها نصب عينيه". يفكِّر في شرف الحق وضعة الباطل، وذلك بأن يفكِّر في عظمة الله عزّ وجل وأنَّه ربّ العالمين، وأنَّه سبحانه يحبّ الحق ويكره الباطل، وأنّ من اتبع الحق استحقّ رضوان ربّ العالمين، فكان سبحانه وليّه في الدنيا والآخرة، بأن يختار له كلّ ما يعلمه خيراً له وأفضل وأنفع وأكمل وأشرف وأرفع حتى يتوفّاه راضياً مرضياً، فيرفعه إليه ويقرِّبه لديه، ويجعله في جواره مكرّماً منعّماً في النعيم المقيم، والشرف الخالد، الذي لا تبلغ الأوهام عظمته، وأنّ من أخلد إلى الباطل استحقّ سخط ربّ العالمين وغضبه وعقابه، فإن آتاه شيئاً من نعيم الدنيا فإنَّما ذلك لهوانه عليه ليزيده بُعداً عنه، وليضاعف له عذاب الآخرة الأليم الخالد الذي لا تبلغه الأوهام. * يتدبَّر ما يرجى لمؤثر الحق من رضوان ربّ العالمين، وحسن عنايته في الدنيا والفوز العظيم الدائم في الآخرة، وما يستحقّه متبع الهوى من سخطه عزّ وجل، والمقت في الدنيا والعذاب الأليم الخالد في الآخرة، وهل يرضى عاقل لنفسه أن يشتري لذّة إتباع هواه بفوات حسن عناية ربّ العالمين وحرمان رضوانه والقرب منه والزلفى عنده والنعيم العظيم في جواره، وباستحقاق مقته وسخطه وغضبه وعذابه الأليم الخالد؟ لا ينبغي أن يقع هذا حتّى من أقلّ الناس عقلاً، سواء أكان مؤمناً موقناً بهذه النتيجة، أم ظانَّاً لها، أم شاكَّاً فيها، أم ظانَّاً لعدمها. * يستحضر أنَّ الذي يهمّه ويُسال عنه هو حاله في نفسه، فلا يضرّه عند الله تعالى ولا عند أهل العلم والدّين والعقل أن يكون معلِّمه أو مربِّيه أو أسلافه أو أشياخه على نقص، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يَسلَموا من هذا، وأفضل هذه الأمّة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضي عنهم وكان آباؤهم وأسلافهم مشركين. عبد العزيز بن ناصر الجليل