أخذ ذلك – العجوز – مكانه على كرسي مركازه عندما أتاه ذلك الفتى والقى عليه سؤالاً واحداً. أخبرني يا عم عن ذلك الزمن القديم في مدينتنا الحبيبة هذه. نظر إليه – العجوز – وهو يتنهد على ذلك الزمن الذي مضى وقال له إنك تنكأ جراحي يا ابني. فقال له الفتى ولكنني أريد ان أعرف عن بعض الشوارع في المدينةالمنورة.أسند العجوز رأسه على ظهر المركاز وهو ممسك – بلي شيشة – الحمي .. وراح يسرد ما يتذكره عن ما سئل عنه قائلا اسمع يا ابني بشرط دون أن تقاطعني: فقال الفتى: حاضر. قال الشيخ العجوز: كان في ذلك الدكان الصغير في ذلك السوق الطويل والمتعرج الواصل بين "برحة" باب المصري حتى "برحة" باب السلام "برواشين" بيوته الممتدة في العمر .. والمطلة على "الشارع" العجيب بتنوع المعروض فيه. فهذه دكاكين "القماشين".. وبجانبها – الصاغة – وبائعو الذهب .. وفي رأسه الشرقي صانعو وبائعو – العُقل .. المقصّبة .. وغيرها .. وفي رأسه الغربي بائعو العطارة .. والصيرفية.. والأحذية وفي وسطه ذلك المقهى الذي يُخدٍّم على كل هذه "الدكاكين" اكثر من استقباله لرواد "المقاهي". كان ذلك الرجل العجوز .. ينحني على ما أمامه في يده "مخراز" حاد الشفرة .. لا تسمع له صوتا .. شديد الهمس لمن بجانبه كثير الابتسام لمن يحادثه ما أن يستمع إلى صوت المؤذن في المسجد النبوي الشريف.. حتى يقوم في هدوء ويضع كل ما في يده،في دقائق تلفظ كل "الدكاكين" أصحابها إلى خارجها فيضعون على مقدمتها قماشاً يعلن عن أداء الصلاة أكثر من أن يمنع أيادي السارقين أو تصرفات العابثين .. أو حتى شقاوة الأبرياء. وذلك "الرجل" عندما يعود من "الصلاة" يجد أمامه نفراً من طالبي عونه ومساعدته فكان يدس يده تحت فرشه الصغيرة ويخرج بعض النقود .. في صمت ولا يلتفت إلى من يحاول خداعه بالالتفاف مرة أخرى ليأخذ أكثر فيعطيه الرجل. ذات مرة قال له أحدهم إنهم يخدعونك .. ابتسم في هدوء وهو يقول : ليكن .. أنا افعل ما اؤمن به وهم يفعلون ما يؤمنون به .. كأنه يمثل ذلك القول الجميل : "عامل الناس بأخلاقك لا تعاملهم بأخلاقهم". وذلك غاية السمو والارتفاع التي تنم عن نظافة معدن وعلو خلق نادر.