أخذ الرجل مكانه في مركازه المعتاد أمام منزله يتابع حركة الشارع أمامه والناس تخرج للتو من صلاة العصر في المسجد النبوي الشريف وصوت شيشة "الحمى" يختلط بصوت عجلات السيارات على الأزفلت المجدور.. فراح العجوز يطيل النظر الى الشاب الجالس بجانبه صامتاً على غير عادته فقال له العجوز ضاحكاً: اراك اليوم ساكتاً حزيناً كأنك تحمل الأرض على رأسك؟ ودون أن يلتفت إليه الشاب قال له بالفعل إنني حزين.. فقال العجوز وهو يعطيه كل اهتمامه: وما هو سبب حزنك؟ فقال الشاب بكثير من الألم: هناك أكثر من سبب. فرد العجوز وكأنه بوغت برد الشاب الذي يحلو له أن يطلق عليه دائماً "بالباحث عن المتاعب": هات ما عندك وإن كنت على ثقة بأن كل الاسباب التي سوف تقولها لا يستدعي منها سبب واحد لحالتك هذه. فقال الشاب ضجراً: وما أدراك؟ فقال العجوز سريعاً: لأني أعرفك فأنت شاب طموح وتريد الأمور تجري دائماً حسب هذا الطموح وهذه الحيوية ثم ابتسم العجوز وهو يقول ثم أعرفك بأنك دائماً تحمل السلم بالعرض: "على رأي اخواننا أهل الشام". فقال الشاب وشيء يرتسم على وجهه كأنه الحزن والأسى لقد مررت اليوم بموقف مع أحد معارفي وشكا لي مر الشكوى من أنه كاد يصاب باليأس في الحصول على رخصة بناء لأرضه التي حصل عليها بعد طول عناء ومشقة وبعد أن أصبح قريباً من أصحاب الأملاك وقف دونه في الحصول على هذه الرخصة بعض العراقيل. فقال العجوز: على حد علمي أن الحصول على هذه الرخصة إذا ما كانت كل الأوراق سليمة ومكتملة لا يتعدى الأسبوع في الغالب. فقال الشاب هذا ما كنت أعرفه الى أن فوجئت بهذا الصديق الذي قال لي إن هذا أمر قد مضى، لأكتشف أن هذه حالة تكاد تكون عامة. فقال العجوز وكأنه لا يصدق ما يسمع يمكن أن يكون هناك نظام يستدعي كل هذا التأخير. فقاطعه الشاب بحماس قائلاً: "عمر النظام ما كان وسيلة تأخير أو تعطيل"، النظام هو تسهيل وتيسير شؤون المواطن.. والنظام الذي لا يكون كذلك لابد أن به نقصاً وبالتالي لابد من تغييره أو تعديله، ولكنني لا أعتقد أن هناك خللاً في النظام لأنه قائم منذ زمن ولم يشتك منه، ولكن قد يكون هناك اجتهاد ممن هو مطالب بتنفيذ هذا النظام وأخطأ في اجتهاده فقال العجوز ضاحكاً: إذن في هذه الحالة له أجر من اجتهد فأخطأ.. فقال الشاب وذلك الحزن والأسى لازالت ظلاله على وجهه لا.. في هذه الحالة لا يقبل الاجتهاد فطالما هناك نصوص واضحة يجب تنفيذها دون اجتهاد.. الاجتهاد مقبول في الأشياء التي ليس لها نصوص واضحة لنقول لمن يخطئ له أجر من اجتهد فأخطأ. فقال العجوز من خلال دخان "الحمى" إنني محتار فعلاً لا أدري ماذا أقول لك.. لقد "أفحمتني". فرد الشاب سريعاً كأنه يريد أن يعيد الكرة الى ملعب العجوز "على رأي اخواننا اهل الشام". ضحك العجوز على ألمحية الشاب وسادت بينهما لحظة صمت قالا فيها كلاماً كثيراً دون أن يتكلم أحد منهما. وليس هنا الا اختلاط صوت شيشة "الحمى" بأصوات السيارات والغبار يتطاير من تحت عجلاتها قال العجوز: اوف..! الله يرحم أيام زمان قبل أن تزفلت هذه الشوارع كان "رشاش" البلدية يومياً يقوم برش هذه الشوارع ليرحمنا من هذا الغبار الآن اعتمد على الازفلت الذي زاد الحرارة ولم يغط كل مساحات الميادين والشوارع واختفى ذلك "الرشاش" الذي كان يتهادى في الشوارع والأحياء. فقال الشاب وكأن العجوز قد اثاره من جديد. لقد مررت اليوم بكثير من الشوارع فوجدت كثيراً من الحفريات وكثيراً من الأزفلت الذي تحول الى أزفلت "مجدور" وشوارع وميادين يتطاير منها الغبار وأرصفة بها تكسير فقال العجوز متسائلاً: هل هذه الحفريات بفعل شركات أو أناس أم أن الأزفلت غير جيد أصلاً؟ فقال الشاب: لا أدري بالضبط ولكن ما هو الفارق ياسيدي؟ فقال العجوز: هناك فارق كبير جداً. فإذا كان الأزفلت حفر من قبل شركات تنفذ بعض الأعمال ولم تقم بإصلاحه بعد انتهاء أعمالها فهذا خطأ تلك الشركات التي يجب أن تحاسب والبلدية هنا مسؤولة في محاسبتهم باصلاح ما أفسدوه أما إذا كان السبب هو رداءة تنفيذ الزفلتة فالمسؤولية أيضاً تقع على البلدية التي لم تراقب من قام بتنفيذ هذا الأزفلت وهذا ينطبق على الأرصفة. فقال الشاب من خلال غضبه: لا أدري كل هذا أفهمه أن يكون لدينا شارع مزفلت ومرصوف ومنار ومشجر. فقال العجوز: هذا من حقك وحق أي إنسان ولكن الا تعتقد أننا نحن كمواطنين مطالبون بالمحافظة على كل هذا الذي نتحدث عنه.. نحن مطالبون بالمحافظة على سلامة الأزفلت لا نخربه بالمياه التي نتركها تفيض من منازلنا لتتحول الى برك مياه تحفر الأزفلت.. مطالبون بالمحافظة على الرصيف لا نقف عليه بسياراتنا مطالبون بالمحافظة على هذه الشجرة لا بقلعها.. مطالبون بالمحافظة على عمود النور. فقال الشاب وكأن كلام العجوز وجد قبولاً في نفسه. هذا صحيح وأوافقك عليه لكن هذا لا يعني أن البلدية غير مسؤولة. فرد العجوز: لم اقصد أن أنفي المسؤولية عن البلدية ولكنني لا أريد أن يكون المواطن غير مسؤول أيضاً لأن المسؤولية تبدأ منه أولاً. توقف الحوار بينهما وصوت مؤذن المسجد النبوي ينطلق لصلاة المغرب وقف الشاب يلملم "لي" شيشة الحمى.. وأخذا طريقهما الى المسجد في هدوء.