غزة - "عظم الله أجرك".. عبارة تباغت أسماع "فايز السيد" توقظه من شروده.. صوته يبدو غائبا ولا تقوى شفتاه على النطق ب"شكر الله سعيكم"؛ فثمة صدمة عنيفة تقف عائقا أمام حروفه وتمنعها من الخروج. فايز السيد (والد شادي) الذي يأتي المعزون لمواساته، لا يدري -مثله مثل العشرات من أهالي غزة- ما مصير ابنه الذي انهمرت عليه أمطار الموت وحمم البراكين في أول أيام حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة، ولا تدري عائلة "السيد" إن كان ابنها ما زال على قيد الحياة أم فارقها. وتواصل فرق الإنفاذ وطواقم الدفاع المدني البحث عن عشرات المفقودين تحت أنقاض وركام المقرات الأمنية التي دكتها الطائرات الحربية الإسرائيلية وقتلت المئات من عناصر وأفراد الشرطة في غضون دقائق معدودة. والد الشهيد "شادي" يتحدث ل"إسلام أون لاين" بصوت دامع: "ما أصعب أن تفتح بيتا للعزاء وأنت لا تدري أين ابنك؟ القصف الذي نال مقر عمله دمره بالكامل.. لم يعثروا على جثته، أحد أصدقائه قال إن هاتفه المحمول بعد القصف كان يرن". يصمت لحظات تاركا العنان لدموعه ثم ما يلبث أن يتكلم بنبرات مخنوقة: "ليتهم يأتونني ولو بأصبع منه إن كان شهيدا"، وبالرغم من استحالة بقائه حيا فإن الوالد المكلوم وبحديث أقرب للتمني يتابع بألم: "من يدري.. ربما هو حي". ما تعيشه هذه الأسرة من حالة ارتباك وذهول تحياه أيضا عشرات العائلات التي تبحث عن أسئلة أجوبتها مدفونة تحت ركام الدمار والخراب الهائل الذي ضرب المدينة، ولا تستطيع فرق الإنقاذ أن تغامر في تشغيل آلاتها لرفع الأنقاض خوفا من معاودة قصفها من قبل طائرات الاحتلال. في منزل عائلة عبد العال الحزن يرتسم بكامل تفاصيله، فرحلة البحث عن نجلهم الأكبر "عامر" لا تتوقف، شهود عيان قالوا إنهم شاهدوا بطاقة هويته ملقاة على أرضية المقر الذي يعمل فيه. الأم تبكي وتسأل بذهول: "هل مات؟! أين جثته.. أريد أن أراها"، وتستدرك بشيء من الأمل: "ربما هو جريح يرقد في أحد المستشفيات.. فالمئات من الجرحى في غرف العناية المركزة". أخبروا عائلته أن ابنهم "أمجد حميد" قضى نحبه في القصف، وأن جسده تفتت بالكامل ولم تعد له ملامح.. تلقت الأسرة النبأ بحزن شديد وأقامت صلاة الغائب على شهيدها وأخذت تصافح المعزين بألم. "أم أمجد" بدت واجمة شاردة الذهن، وقالت بعد أن تنهدت طويلا: "ما أقسى هذا الفراق.. يرحل قرة عيني دون وداع.. دون أن أقبل جبينه".. تدخل في نوبة بكاء عميق تهرب معها كل الحروف. واستخدمت إسرائيل في محرقتها الجديدة أشد الأسلحة فتكا ودمارا، ونقلت عيون الكاميرا بشاعة المشاهد والصور، فالجثث متفحمة والأجساد فتات. صورة شخصية ل"محمد سليم" في بطاقة هوية التهمت النيران نصفها أمام كومة من الأشلاء هي ما دل عائلته على هويته. في جنازته الوهمية وبنعش فارغ حمله الأهل والأصحاب لم تتحمل العيون الموقف وأخذت تذرف الدموع الحارة على حبيب لم يودعوه. على حطام أحد المباني أخذ عادل عطية يبحث بوجع عن شقيقه.. صرخ بألم حاد "عقولنا تأبى التصديق بأن أحبتنا يغادروننا بهذه الطريقة". وشيعت الكثير من العائلات أولادها دون أن تتمكن من إهدائهم النظرات الأخيرة ووصايا الوداع.