خطوة للأمام وخطوتان للخلف.. على هذا الحال تبدو مساعي التقارب البطيء والحذر بين الهند وباكستان، فما من محاولة أو خطوة على طريق تذويب الجليد المزمن بين الجارتين النوويتين إلا ويأتي حادث إرهابي يقوضها في مهدها مرتدًا بعلاقاتهما خطوات للوراء. فقبل سبعة أعوام خلت كاد حادث إرهابي تعرض له البرلمان الهندي وأوقع عشرات القتلى والمصابين أن يفضي إلى نشوب المواجهة العسكرية الرابعة بين إسلام آباد ونيودلهي، وذلك بعد أن ألقت الأخيرة وقتها باللائمة على الأولى في وقوع ذلك الحادث. وفي عام 2004 تكرر السيناريو ذاته إثر واقعة تفجير قطار هندي، وفي شهر يوليو من العام الجاري توقفت إحدى أهم جولات مباحثات السلام بين الجانبين إثر تفجير مبنى السفارة الهندية في كابول وتوجيه نيودلهي وواشنطن أصابع الاتهام للاستخبارات الباكستانية. واليوم تثور المخاوف مجددا من حرب رابعة بين إسلام آباد ونيودلهي بعد أن شهدت مدينة مومباي، العاصمة المالية للهند، يوم 26 نوفمبر الماضي هجمات مسلحة نالت عددا من المواقع بالمدينة كبورصة مومباي وفندقي تاج محل وأوبروي ومحطة للسكك الحديدية إضافة إلى معبد يهودي؛ ما أودى بحياة مائتي قتيل كان من بينهم ثمانية وعشرون أجنبيا منهم خمسة أمريكيين وتسعة إسرائيليين وفرنسيان وأستراليان وبريطاني وياباني وإيطالي وألماني ومواطن من موريشيوس، ورهينة من سنغافورة وأخرى من تايلاند وثالثة من المكسيك، إلى جانب عشرين من قوات الأمن الهندية، فضلا عن سقوط ما يقرب من ثلاثمائة جريح. نزوع نحو التصعيد وشأنها شأن سابقاتها من الأحداث الإرهابية التي أعاقت التقارب الهندي الباكستاني، اكتست ردود الفعل المتبادلة على الصعيدين الهندي والباكستاني مسحة من النزوع المتشنج نحو تصعيد التوتر، ومن طرف نيودلهي كانت البداية؛ حيث جنحت لتحميل إسلام آباد مسئولية ما جرى واتهامها بالتورط بشكل أو بآخر في الهجمات التي نالت أهدافا هندية،. كما أعلنت حكومة حزب المؤتمر وقف كل صور التقارب أو الحوار مع الجانب الباكستاني بما فيها مباحثات التطبيع الاقتصادي والسياسي بين البلدين بعد أن شهدت زخما ملحوظا منذ شهر أكتوبر الماضي، وكان مقررا استئنافها في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر الجاري في إسلام آباد، وأتبعت الهند ذلك بإعلان رفع درجة تأهبها الأمني إلى مستوى حالة الحرب، فكثفت البحرية الهندية دورياتها في المياه الإقليمية المحاذية لشواطئ باكستان. ولم تكن ردود الفعل الباكستانية هي الأخرى أقل تشنجا، فرغم نفي إسلام آباد أية علاقة بتفجيرات مومباي وإعلان استعدادها التعاون مع نيودلهي في ملاحقة الجناة ومعاقبتهم أيا كانوا، وإجراء الرئيس الباكستاني اتصالا هاتفيا مع رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ أكد خلاله على ضرورة اتخاذ أشد التدابير لاجتثاث الإرهاب والتطرف من المنطقة، وعدم السماح للإرهابيين بتقويض التقارب بين البلدين، ومطالبا بمواصلة مساعي التطبيع بين الجارتين. عدلت إسلام آباد بعد ذلك عن إرسال مدير جهاز مخابراتها إلى الهند للمساهمة في كشف ملابسات الحادث مكتفية بإيفاد ممثل عن الجهاز، كما أبدت استعدادها لمواجهة أي تصعيد محتمل، ولوحت بإمكانية سحب القوات الباكستانية المتمركزة في منطقة وزيرستان الحدودية مع أفغانستان في إطار الحرب ضد الإرهاب وإعادة نشرها على الحدود مع الهند إذا ما واصلت الأخيرة تأزيم الموقف، وهي التطورات التي من شأنها أن تضع مساعي التقارب القلق والمتعثر بين الجارتين النوويتين على المحك. مساعي استغلال الحدث داخليا وفي حين أعلنت مصادر عسكرية باكستانية أن وزير الشئون الخارجية الهندي براناب مخيرجي اتصل بمسئولين باكستانيين بارزين ووجه إليهم تهديدات اشتموا فيها رائحة تصعيد هندي متعمد، كثف حزب بهارتيا جاناتا القومي الهندوسي المتطرف، وهو حزب المعارضة الرئيسي، هجومه على حكومة حزب المؤتمر متهما إياها بالعجز عن مقاومة الإرهاب، في محاولة منه لاستغلال تلك الأحداث في تدشين حملته الانتخابية استعدادا لانتخابات مايو المقبل. وطالب الحزب الشعب الهندي بانتخابه مدعيا أنه الأقدر على محاربة الإرهاب وحماية أمن البلاد، وهو الأمر الذي يهدد مستقبل التقارب الهندي الباكستاني لاسيما وأن حزب جاناتا معروف بتشدده فيما يخص السلام مع باكستان وتسوية المسألة الكشميرية. ومن جانبها، تحمل إسلام آباد الحكومة الهندية مسئولية هذا الوضع المتدهور؛ على اعتبار أن حزب المؤتمر الهندي الحاكم هو الذي استهل التوتر حينما وجه اتهامات مباشرة ومبطنة في آن لباكستان بالوقوف وراء الأحداث، حيث أعلنت الداخلية الهندية أن بحوزتها أدلة على أن المهاجمين جاءوا إلى مومباي بطريق البحر من كراتشي أكبر مواني باكستان، وأن المسلح الوحيد الذي تم توقيفه من بين الجناة باكستاني الجنسية وأنه اعترف بهوية جميع المسلحين الذين قتلوا خلال المواجهات مع الجيش الهندي مؤكدا أنهم مواطنون باكستانيون، وأنهم تدربوا لدى منظمة "عسكر طيبة" المتمركزة في باكستان والمناهضة للوجود الهندي في الإقليم منذ سنوات، وهي المنظمة المعروفة بتورطها في أحداث البرلمان الهندي عام 2001. على صعيد آخر، أعلنت دوائر سياسية باكستانية أن نيودلهي تلقي باللائمة على باكستان لصرف الأنظار عن فشلها في منع وقوع تلك الأحداث برغم تحذيرات تقارير عديدة تلقتها الاستخبارات الهندية، وهو ما أرجعته تلك الدوائر إلى تواطؤ عملاء استخباراتيين هنود مع بعض الحركات المتطرفة داخل الهند. ومن ثم اعتبر وزير الاتصالات الباكستاني أحداث مومباي تخريجا لتوترات وأزمات تعتمل في الداخل الهندي، مذكرا بأن اتهامات هندية متعددة نالت باكستان فيما مضى حول عمليات إرهابية عديدة داخل الهند، غير أن التحقيقات الدقيقة كانت تؤكد زيف هذه الاتهامات، وتكشف تورط جماعات هندية متطرفة فيها. وفي ذات السياق، استنكرت صحيفة" ذي نيشن" الباكستانية ما وصفته بالسلوك الروتيني للهند حكومة وإعلاما، والذي ألف القفز على نتائج التحقيقات والتسرع في توجيه الاتهام لباكستان، وأبدت دهشتها من غض الطرف عن تصريح الناطق باسم المهاجمين بأن مجموعته جاءت من مدينة حيدر آباد الهندية فيما راحت وسائل الإعلام الهندية تؤكد أن المهاجمين قدموا إلى مومباي عبر البحر من مدينة كراتشي وأنهم يتكلمون بلكنة باكستانية. وأشارت "ذي نيشن" في افتتاحيتها إلى أهداف الهجوم كما ورد على لسان بعض المهاجمين من أنه انتقام لهدم المسجد البابري عام 1992، وسوء معاملة الأقلية المسلمة في البلاد على نحو ما تجلى في أحداث غوجارات عام 2002 التي حرق فيها أكثر من ألف مسلم ومسلمة. ولفتت الصحيفة الباكستانية إلى أن طريقة وأسلوب تنفيذ الهجمات ومعرفة المهاجمين الدقيقة بما يستهدفونه تؤكد أنهم هنود، وقد استشهدت الصحيفة بما أوردته صحف بريطانية بشأن أحداث مومباي التي أرجعتها إلى فاعلين هنود مستاءين من اضطهاد ممنهج تمارسه الأكثرية الهندوسية ضد الأقلية المسلمة هناك، علاوة على النزاع بشأن كشمير. وأخذت "ذي إندبندت" على الحكومة الهندية عدم كشف الأدلة التي تؤكد ضلوع عناصر مسلحة باكستانية في اعتداءات مومباي، في وقت يؤكد خبراء الإرهاب العالميين أن هويات المهاجمين لا تزال غير معروفة، وفى ختام افتتاحيتها، دعت الصحيفة الباكستانية الحكومة الهندية إلى الاهتمام بالداخل بدلا من اتهام الخارج، ونصحتها بتبني سياسة أفضل حيال الأقليات المسلمة؛ كي يسود السلام في البلاد. التصعيد يفيد حكومة زرداري وفي حين ترى إسلام آباد أن نيودلهي تحاول نقل المعركة إليها بدلا من الإرهابيين، يرجع بعض الخبراء تلويح باكستان بحشد قواتها من وزيرستان إلى الحدود الهندية الباكستانية وإعلانها الاستعداد لمواجهة أي تصعيد من قبل الهند، إلى سعي الحكومة الباكستانية لتحقيق عدة غايات منها ما هو موجه إلى الداخل الباكستاني الملتهب والساخط على نظام الرئيس زرداري، ومنها ما هو موجه إلى الخارج. داخليا، يعمد الرئيس زرداري إلى محاولة تأليف قلوب الشعب الباكستاني من حوله، وتقليص حدة المعارضة الشعبية المتنامية له والتي تصاعدت خلال الآونة الأخيرة على خلفية استمرار التحالف الباكستاني/الأمريكي في الحرب ضد الإرهاب، وما يشاع عن اتفاق سري أمريكي باكستاني يتيح للقوات الأمريكية توجيه ضربات عسكرية لمناطق قبلية حدودية باكستانية بذريعة مطاردة مقاتلي تنظيم القاعدة وحركة طالبان، وهي الضربات التي ازدادت وتيرتها منذ أغسطس الماضي وأسفرت عن سقوط مئات القتلى من المدنيين الباكستانيين في تلك المناطق، وأدت إلى تشريد الآلاف، وتسببت في تفجر مشكلة لاجئين في باكستان. ويبدو أن تلك الإستراتيجية قد آتت أكلها؛ حيث أعلن سراج الحق مسئول الجماعة الإسلامية في إقليم بيشاور أن جماعته، رغم معارضتها سياسة الحكومة، لن تشذ عن أي إجماع وطني من شأنه حماية أمن باكستان واستقرارها، مؤكدا استعدادها للتعاون مع الحكومة من أجل تهدئة الأوضاع في مناطق القبائل، وتخفيف حدة التوتر الداخلي بما يدعم موقف إسلام آباد في أية مفاوضات محتملة مع نيودلهي. وعلى الصعيد الخارجي، يجنح نظام الرئيس الباكستاني آصف زرداري باتجاه استجداء الدعم الأمريكي لبلاده عبر تهديده بتسخين الأجواء مع الهند على نحو ينذر بحرب رابعة بين البلدين؛ حيث تحاول إسلام آباد الضغط على واشنطن عبر التهديد بسحب قواتها من ميدان محاربة الإرهاب في وزيرستان وتوجيهها صوب الهند، وكذا تجميد الدور اللوجستي الباكستاني الحيوي في تلك الحرب عبر قطع خطوط تموين قوات حلف شمال الأطلسي في أفغانستان والتي تمر عبر الأراضي الباكستانية، وهو ما لا تقبل به واشنطن التي آلت على نفسها تذليل أية عوائق يمكن أن تعطل المشاركة الباكستانية في الحرب ضد الإرهاب. وتدرك إسلام آباد جيدا أن واشنطن لا يمكن أن تسمح بنشوب مواجهة جديدة بين الهند وباكستان بوسعها أن تجرهما إلى استخدام أسلحة غير تقليدية، تحيد بمسار الإستراتيجية الأمريكية في قارة آسيا عن أحد مقاصدها الأساسية والمتمثل في حماية أمن الطاقة الأمريكي، ومحاربة الإرهاب بمساعدة القوى المتميزة جيوإستراتيجيا كباكستان والهند. وهكذا يمكن القول إن استغلال أحداث بومباي في كل من الداخل الهندي والباكستاني يتيح لرافضي السلام على الجانبين ذريعة لتقويض مساعي بلديهما المترددة والقلقة باتجاه سلام لم تستقر دعائمه بعد برغم وضع لبناته الأولى قبل خمسة أعوام؛ ذلك أن اعتماد أطراف الصراع الهندي الباكستاني لإستراتيجية إدارته بدلا من تسويته قد أفضى إلى تشعبه وتجاوزه حدود المسألة الكشميرية. ولم يعد مسرح هذا الصراع يقتصر فحسب على إقليم كشمير أو حتى بعض الأهداف داخل البلدين، وإنما امتد لينال ساحات إقليمية أخرى كأفغانستان التي ساعدت أوضاعها المهترئة على جعلها ساحة للتنافس وتصفية الحسابات بين البلدين، والتنفيس عن صراعهما المكبوت، واستخدام كل منهما فصائل تابعة لهما داخل أفغانستان، حتى إنه في الوقت الذي ألقت الاستخبارات الأمريكية والهندية باللائمة على نظيرتيهما الباكستانية في حادث تفجير السفارة الهندية بكابول، لم تتورع إسلام آباد عن اتهام نيودلهي بتزويد حركة طالبان الباكستانية وانفصاليين باكستانيين بالسلاح والمال، كما أبدت قلقها إزاء تنامي النفوذ الهندي داخل أفغانستان.