من الصعب على جيل اليوم أن يقف على كل الحقيقة التي ينطوي عليها "الزمن الجميل".. فهناك فجوة واسعة بين ما نعيشه اليوم وبين ذلك الزمن الذي يتحدث عنه أهل جدة القديمة ويجترون به ما بقي من حكايات وذكريات، وقد يتمادى بهم الشوق إلى ذلك الماضي البعيد فيقفون على أطلاله في المنطقة التاريخية.. عسى أن تهب عليهم نسمات البساطة والخير والناس الطيبة. ولما كانت روح "الأسرة الواحدة" هي النابضة في مجتمع العروس منتصف القرن الرابع عشر الهجري تقريبا، فلا غرابة أن يكون لهذا التقارب الاجتماعي صوره ودلالاته، ولعل في مقاعد بيوت جدة القديمة وجلساتها ومراكيزها ما يجسد جانبا من تلك الصورة بكل ما تضمنته من تواصل وحميمية وتعاضد وإنسانية، وكأنَّ مرتادي تلك المقاعد والمراكز يجدون فيها متنفسا يخفف عنهم وطأة المعيشة، ويزيل عنهم هموم الكدح في طلب الرزق، وقد يجد فيها البعض مساحة من حرية البوح بما يفكر فيه، وما يراه فيضع بين الآخرين مشكلة ما يشاركه الآخرون في حلها، ناهيك عن صور أخرى عديدة تمثّل قمة التكافل والترابط ، كما يلتقي في رحابها وعلى مقاعدها وكراسيها بعض الأقارب والأصدقاء والزملاء، فيقضون سويعات الفراغ في تجاذب أطراف الحديث ومعرفة المستجدات والجديد في مجتمعهم وما يجري في مدينتهم، وهناك فرصة لتفريغ شحنة الملل بالاستمتاع بلعب العديد من الألعاب الشعبية المسلّية ، كما كان لكل مقعد لعبة معينة يشتهر بها، ولا مانع من تحلية بعض الليالي بجلسة طرب أو ما شابه ذلك. وقد سألت المؤرخ والباحث في تاريخ جدة "العم محمد درويش رقام" عن أبرز المقاعد والجلسات التي انتشرت في جدة القديمة خلال منتصف القرن الهجري الماضي ، فقال: هناك مقاعد عديدة لا يمكن حصرها لكن تظل بعض المقاعد والجلسات حاضرة في الأذهان لما كانت تضمه من رجال جدة المعروفين، أذكر على سبيل المثال لا الحصر: مقعد الشيخ محمد الطويل "كبير جدة" ، ويقع في حارة الشام بجوار القنصلية الفرنسية ، ومقعد الشيخ عبد الحي داود المسلمي، في حارة البحر بجوار وزارة الخارجية ومقعد الشيخ أحمد علي يحيى في حارة البحر بجوار زاوية الشاذلية. من صفحة "جدة وأيامنا الحلوة"