مع بداية الاعلان عن التوسعة الكبرى للمسجد النبوي الشريف أخذ الناس يتحدثون في مجالسهم عن هذه التوسعة غير العادية التي سوف تغير ملامح الاحياء المحيطة بالمسجد النبوي الشريف.بذهاب هذه – الفنادق – والعمارات التي تقع في مجال التوسعة..مما اعاد الى ذاكرة الناس تلك الاحياء القديمة التي كانت تحيط بالمسجد النبوي الشريف من جهاته الاربع فهذا حي باب المجيدي، من الناحية الشمالية وهذه حارة الاغوات والعنابية من الجهة الشرقية والعيينة وسويقة وجزء من الساحة من الجهة الغربية وذروان وسقيفة الرصاص من الجهة الجنوبية، نبحث الآن عن كل هذه المعالم فلن تجدها الآن إلا في الذاكرة ورحت ألاحق ما يدور في تلك المدينة توقفت عند كثيرين كانوا لا يرون مدينتهم الا من خلال تلك المواقع التي عاشوا فيها وتغلغلت في مسام جلودهم. = 2 = لكن عندما تتوقف من هذا "اللهاث" اليومي في دوامة الحياة وتعود بذاكرتك الى ماضي الايام "وتنبش" في ذاكرة "المكان" تنبعث من داخلك كوامن كثيرة مسبوكة بشجن عذب لتلك الاماكن والشخوص. فتحتار ماذا تقدم من تلك الذاكرة المشحونة بالجميل والحميم من الامكنة والشخوص المرتبطين بتلك الامكنة لهذا سوف اختار هذه الاماكن من اماكن كثيرة جداً على امتداد هذه المدينة الناعسة هدوءاً واسترخاء واطمئناناً انها مدينة – الرحمة – المدينةالمنورة. = 3 = كان ذلك اليوم شديد الحرارة.. الناس هجروا الشوارع ولاذوا بمساكنهم.. السماء بدت كالفضة ناصعة لا طير فيها ولا غيمة اخذت طريقي الى باب الرحمة قابلني هواء بارد أشعرني بالحياة. سلمت على البواب الذي تنبه من غفوته على صوتي وضعت حذائي داخل احد الرفوف. اخترقت المسافة بين الباب والروضة تخطيت كثيرين كانوا يغطون في قيلولة مريحة وقفت أمام الشباك الشريف شيء كأنه الخفق يتزايد داخل صدري وبرودة تسري في كل جسمي رغم هذا الصهد في الخارج اصابتني حالة من الوجد لم أقل شيئاً انسحبت في هدوء. الروضة تناثر فيها بعضهم دققت النظر لعلي أتعرف على احد منهم. عاد لي نظري وهو كسيف وجوه عديدة من كل بقاع الارض تتشابك اجسامهم في هذا المكان الطاهر. تذكرت ذلك الشيخ ذا السحنة السمراء وهو يجلس متكئاً على هذه الاسطوانة صوته الدافئ ينساب في النفس بساطة إنه الشيخ عمر محمد فلاته او ذلك الشيخ المهيب بلكنته الشنقيطية وهو يفسر القرآن ويغوص في بحور اللغة مستشهدا بأبيات الشعر جاهله وحديثه كأنه يقرأ من كتاب امامه لا يُملي من ذاكرة استعصت على النسيان بذلك التدفق المبهر والاسترسال العجيب إنه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي. = 4 = ياه اخذتني الذكرى الى البعيد الى تلك الايام الخوالي حيث أحاول الدخول الى هذا المكان الطاهر في ذلك اليوم شديد الحرارة وهذه الكتل البشرية التي أتت من كل الدنيا لينعموا بهذه الرواء الوجداني وبهذه التحفة المعمارية التي اصبح عليها هذا المكان الشريف. تساءلت في نفسي اين ذهب أولئك الناس الاخيار ممن كانت تمتلئ بهم عرصات هذا المكان؟ انثالت الاسئلة على ذهني، من البعيد لمحت احدهم غارقاً في تلاوة القرآن الكريم كان من أولئك الذين افتقدتهم وأحد الذين أعرف كأن أحسست في داخلي بشيء من الرضا بانه لازال هناك شيء من الماضي البعيد لم تأخذه الدنيا وتطحنه بعجلاتها المسرعة. فلازال ينعم بهذا المكان. = 5 = كانت مكتبة "النمنكاني" في مدخل "الساحة" الجنوبي صغيرة الحجم تعني بالأدوات المدرسية.. وعلى مقدمتها بعض كتب التراث.. بجانب كتب ارسين لوبين ذلك اللص الظريف.. والف ليلة.. وليلة قبل الحكم "باعدامها" او حذف بعض فصولها.. والمقداد والمياسة.. وحمزة البهلوان تلك الكتب التي تشعل الخيال وتصقله. تساءلت ايامها ولازال التساؤل قائماً من صاغها بهذه الحرفية والقدرة على تصوير ذلك الخيال بهذه الحبكة الدرامية الباذخة ولا انسى ذلك اليوم الشاتي.. والامطار تتساقط عندما امسكت بي جدتي العجوز رحمها الله لأقرأ لها رواية "ذات الهمة" واتابع معها طوال ليالي الشتاء الذي كان قاسياً وقارساً في المدينةالمنورة "غير شتاء هذه الايام" بعنتر ابن شداد والزير سالم.. وكانت المكافأة ربع ريال "فضة" في كل مرة.كان لصاحب تلك المكتبة نظرة ثاقبة لتلك الكتب التي يضعها اسفل مقدمة – الدكان – الخشبية مثل روايات احسان عبدالقدوس.. النظارة السوداء.. والوسادة الخالية.. ولا انام.. وانا حرة وغيرها وروايات يوسف السباعي.. نادية.. وفي بيتنا رجل وغيرها من نوادره ونجيب محفوظ الثلاثية بين القصرين وزقاق المدق والسكرية وأولاد حارتنا.. وثرثرة فوق النيل ومحمد عبدالحليم عبدالله.. لقيطة.. والضفيرة السوداء.. الجنة العذراء.. وقصة لم تكتمل، كانت تلك الكتب بجانب ديوان نزار قباني.. قالت لي السمراء.. الذي كان يمثل خروجا على السايد من الشعر في تلك المرحلة هذه الكتب هي كل ما نحصل عليه.. ونحن نتلفت يمينة ويسرة ولا ادري كيف كان صاحب المكتبة يوفر تلك الكتب التي كان يبيعها بأسعار غير عادية.. اما مكتبة "ضياء" في شارع العينية فتلك حكاية اخرى.. لوقت آخر. = 6 = هذه خطوة اخرى تأخذني منحنيات ذلك الزقاق الضيق المتعرج من باب "الحمام" في "ذروان" وذلك الرجل العجوز يجلس في بهوه وأمامه أكوام من قطع الصابون، وتلك المناشف.. ناصعة البياض، وصوت خرير مياه خافت ينبعث من "نافورة" صغيرة تتوسط ذلك البهو.. وبعض من زبائن "الحمام" يجلسون على تلك المقاعد الخشبية.. بعد أن انتهوا من "حمام دافئ" تأخذه قدماه من ذلك الزقاق "ذروان" الى باب مكتبة "عارف حكمت" أمام المسجد النبوي الطاهر من الجهة الجنوبية تلك "المكتبة" الفريدة في محتوياتها من المخطوطات النادرة ومصادر المعلومات. = 7 = وأنا أخرج من باب الرحمة توقفت وتساءلت: أين بائعات الحليب في برحة باب السلام بعد فجر كل يوم حيث يلتف حولهن الخارجون من المسجد ليرشفوا من ذلك الحليب "الطازج" – أما بائع الاسكريم التركي الشهير في شارع العيينة او حجي عابد بيغمشه اللي ما له مثيل الآن بصرامته ودأبه على ذلك الفرن والذي لا يخلو من مداعبة زبائنه أنه زمن البهجة والهدوء والطيبة أخذني التجوال في بعض الشوارع الحديثة هذا الدائري الأول، وهذا الثاني .. لحظتها كان صوت فناننا الكبير محمد عبده يخترق جهاز السيارة وهو يصدح بصوته الرخيم. الأماكن اللي مريت أنت بها عايشة بروحي وبيها الأماكن كلها مشتاقة لك والعيون اللي اترسم فيها خيالك والحنين اللي سرى بروحي وجالك ما هو بس انا حبيبي الاماكن كلها مشتاق لك نعم كل الأماكن هنا مشتاقة لذلك - الحنين شيء كأنه الندى يغسل عيني وهو يقول: كل شيء حولي يذكرني بشي حتى صوتي وضحكتي لك فيها شي لو تغيب الدنيا عمرك ما تغيب شوف حالي آه منتظر ايه علي الأماكن الأماكن يأخذني ذلك الصوت بشجنه الى خيالات من اعتصارات الوجدان وأسرح معه الى كثير من الاحساس الدافق. نعم كأن "محمد" يعيش ذات الاحساس عن فقدان الاماكن وراح يضغط على الجرح النازف عندما مضى في قوله: الاماكن اللي مريت انت فيها عايش بروحي وبيها بس لكن ما لقيتك كنت اظن الريح جابك عطرك يسلم علي كنت اظن الشوق جابك تجلس بجنبي شوي كنت اظن وكنت اظن وخاب ظني ما بقى بالعمر شي لملمت جراحي ومضيت وأنا كلي شوق وحنين لتلك الاماكن والليالي العذاب، وأسأل هل بقي في العمر شيء.