فتحت قضية وفاة الطفل صلاح الدين يوسف جميل يرحمه الله في مستشفى باقدو والدكتور عرفان الباب على مصراعيه للتجاذبات الاعلامية والأخذ والرد والأفعال وردود الأفعال، كما كشفت عن حقائق ومعطيات يتعلق بعضها بالمستشفى المعني بالحادثة ويمتد البعض الآخر ليشمل وضع الخدمات الصحية في بلادنا بصورة عامة ووزارة الصحة بوصفها الجهة المسؤولة بصفة أساسية عن توفير الخدمات الصحية للمواطنين والمقيمين وعن مراقبة القطاع الخاص الذي يتحمل نصيباً لا يستهان به من أعباء تقديم هذه الخدمات بصفة خاصة. وقد وضعت ملابسات القضية وما أسفرت عنها من نتائج علامات استفهام كثيرة حول طبيعة العلاقة القائمة بين وزارة الصحة من ناحية ومختلف مؤسسات القطاع الصحي الخاص من ناحية أخرى. وأجد من المناسب الآن وقد بدأ مسار الأحداث يتجه نحو العقلانية .. وبدأت الأقلام تتناول القضية بشيء من التوازن والموضوعية بعد انحسار الزوبعة الإعلامية ... أجد من المناسب أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع وأن أتناوله من منظور حيادي ينطلق من خبرة شخصية ويعتمد على ما توفر لديَّ من معلومات حول المعاملات الدائرة بين وزارة الصحة والمستشفى المذكور وما تم تداوله في وسائل الإعلام المختلفة ... وما عبر عنه المرضى والمراجعون حيال التداعيات الخطيرة المترتبة على قرار إغلاق المستشفى. وأبدأ من حيث البداية فأشير إلى أنه قد ثبت بالفعل حدوث خطأ في أثناء تحضير الطفل ( يرحمه الله ) لأخذ خزعة من الغدد اللمفاوية المتضخمة وذلك بوضع الطفل تحت تنويم خفيف بواسطة غاز طبي يستخدم لهذا الغرض دون الحاجة إلى تخدير كلي وذلك في إحدى غرف قسم الأشعة وهو إجراء طبي سليم ومتعارف عليه ولم يكن هناك عملية جراحية كما تردد في وسائل الإعلام أو تقرير لجنة المخالفات، وقد أظهرت التحقيقات الأولية التي أجريت من قبل المستشفى أن الخطأ حدث نتيجة التباس في تمديدات مداخل ومخارج أنابيب الغازات الطبية في غرفة الأشعة هذه التي شاءت الأقدار أن تستعمل لأول مرة في هذه الحالة بعد الانتهاء من ترميمها وصيانتها من قبل شركة مختصة متعاقدة مع المستشفى مما نتج عنه استخدام غاز أكسيد النتروجين بدلاً من الأكسيجين وهو ما أدى إلى تدهور حالة الطفل ومن ثمة وفاته. الأمر الذي يثير الشبهة حول إمكانية وجود تقصير من قبل شركة الغازات المتعاقدة مع المستشفى ونأمل أن تكشف التحقيقات أبعاد هذا الالتباس وتحدد مسؤولية جميع الأطراف بما في ذلك مسؤولية المستشفى ومسؤولية طبيب التخدير، حيث تحوم بعض الشبهات أيضاً حول مدى سرعة إدراكه لطبيعة المشكلة منذ بدايتها وطريقة تفاعله معها. وبالمقابل دعونا نستعرض موقف وزارة الصحة في القضية ونتأمل في ردود فعلها حيالها والإجراءات التي اتخذتها ويعنينا منها بالدرجة الأولى قرار إغلاق المستشفى . وللعدل والإنصاف فإننا نقر بأن تجاوب الوزارة كان سريعاً وحاسماً على غير ما عهدنا في قضايا سابقة مماثلة.. حيث أرسلت الشؤون الصحية لجنة التحقيق للمستشفى الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف اللّيل يوم الحادثة، إلا أن التحليل المنطقي البعيد عن المزايدات الإعلامية يقودنا بالضرورة إلى حقائق لا يمكن تجاهلها في موضوع الإغلاق نسوق منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي : 1 - شمل قرار الإغلاق جميع أقسام المستشفى بالرغم من عدم وجود علاقة مباشرة بين هذه الأقسام وبين القسم المعني بالمشكلة، كما أدى الى حرمان آلاف المراجعين من الحصول على ما يحتاجونه من خدمات في أقسام العيادات الخارجية وأقسام التنويم الأخرى وأقسام الغسيل الكلوي والأمراض النفسية والعلاج الطبيعي والمختبر وغيرها ... ومعظم هؤلاء المرضى يتابعون لدى أطبائهم المعالجين وفق مواعيد محددة سلفاً... لا يمكن والحال كذلك اعتبار قرار الإغلاق هذا إجراءً احترازياً حيث إنه يمس أقساماً عديدة لا علاقة لها بالقسم المعني بالحادثة من قريب أو بعيد . 2 – إن حجم الضرر الناتج عن قرار الإغلاق وما ترتب عليه من إخراج المرضى المنومين بهذه الصورة وحرمان شريحة كبيرة من المجتمع من الحصول على الرعاية الطبية التي هم بأمس الحاجة إليها يفوق كثيراً أية فائدة مرجوة من الإغلاق خاصة إذا علمنا أن المستشفى المذكور يضم أكثر من مليوني ملف لمرضى يتابعون حالاتهم في أقسامه المختلفة ... علاوة على أن البدائل المتاحة أمام هؤلاء المرضى كانت محدودة للغاية إن لم تكن معدومة ونخص منهم مرضى القلب والأورام والمرضى النفسيين وغيرهم،والذين حملت لنا الأخبار نبأ وفاة بعضهم أثناء بحثهم دون جدوى عن أسرة للتنويم في أي مستشفى من مستشفيات جدة. 3 - إن قرار الإغلاق لم يأخذ في الاعتبار أوضاع المرضى المنومين ومصيرهم .. كما لم يتم إعطاء المستشفى الوقت الكافي للتنسيق مع المستشفيات الأخرى لتوفير الأسرة اللازمة لهم وخاصة أسرة العناية المركزة التي تعاني مدينة جدة من نقص دائم فيها . 4 - تسبب قرار الإغلاق في إيقاف عمل أكثر من 2500 موظف وموظفة وهو أمر ينطوي على ظلم بيِّن لهذه الفئة التي لم يكن لها أي دور فيما حدث والذين باتوا أمام مصير مجهول .. فضلاً عن أن النخبة المميزة من الأطباء والفنيين والإداريين سيتجهون للبحث عن مواقع جديدة للعمل قد تكون خارج مدينة جدة مما يتسبب في فقدان عناصر لا يمكن تعويضها بسهولة. 5 – إن مدينة جدة كما يعلم الجميع تعاني من أزمة خانقة على صعيد توفير الخدمات الطبية اللائقة للمواطنين والمقيمين وأن هناك نقصاً شديداً في أسرة التنويم بالمستشفيات الحكومية خاصة أسرة العناية المركزة , ذلك أن وزارة الصحة لم تضف سريراً واحداً لمدينة جدة على مدى أكثر من 25 عاماً في الوقت الذي تضاعف عدد سكان هذه المدينة عدة أضعاف خلال هذه الفترة ونتيجة لذلك فقد قام القطاع الخاص بالمشاركة في تغطية جزء لا يستهان به للاحتياجات الصحية للمواطنين والمقيمين .. وقامت الدولة رعاها الله بدعم هذه التوجيهات ومنح تسهيلات مالية بمئات الملايين من الريالات لجميع مشاريع إنشاء المستشفيات من قبل القطاع الخاص وليس من الحكمة أو المنطق أن تقوم وزارة الصحة باتخاذ مثل هذه القرارات التي تبدو كما لو كانت الوزارة تسعى إلى معاقبة المجتمع بأسره وليس ملاك المستشفى المعنيين وحدهم. 6 – إن وزارة الصحة هي التي منحت ترخيص العمل لهذه المستشفى وسمحت للعاملين فيه بمزاولة المهنة .. بل ومنحته قبل ثلاثة أشهر فقط شهادة استثنائية من مستوى جودة الخدمات بلغت 95 % وهي أعلى نسبة يحصل عليها أي مستشفى حكومي أو خاص في المملكة. 7 – إن التناول الإعلامي الواسع والمتشنج أحياناً لهذه القضية قد أوجد درجة عالية من الضغوط على وزارة الصحة دفعها لاتخاذ أي إجراء حتى ولو كان متسرعاً لكي تحافظ على هيبتها وهي تعفي نفسها من المسؤولية .. وبالمقابل فإن هذا الزخم الإعلامي الهائل قد ساهم بدرجة كبيرة في فقدان ثقة المواطن في مؤسساتنا الصحية وضاعف في اتساع الفجوة بين أفراد المجتمع من ناحية وبين العاملين في القطاعات الصحية من ناحية أخرى وأحدث بلبلة لدى الرأي العام لا تخدم المصلحة العامة .. على أن مما تجدر الإشارة إليه في هذا الجانب أن الأخطاء الطبية هي حقيقة لا سبيل لإنكارها .. وهي تحدث في أية منشأة طبية في أي مكان من العالم ولم يتمكن أي مجتمع إنساني من القضاء عليها لأنها تستمد جذورها من الطبيعة البشرية لجميع الممارسين الصحيين على امتداد العصور من فجر التاريخ الى أن يرث الله الأرض ومن عليها .. فالأطباء ومساعدوهم هم بشر عاديون وهم كذلك عرضة لكل ما يعتري البشر من عوامل الضعف ومظاهر النقص ومن ذلك ارتكاب الأخطاء ... وأن قصارى ما يمكن أن تحققه جميع الضوابط والمعايير والأنظمة والقوانين هو الحد من سعة حدوث الأخطاء وليس منع حدوثها بالكامل.. فكما أننا لا نستطيع أن نمنع بالكامل سقوط الطائرات وتصادم القطارات أو انفجار الشاحنات رغم كل إجراءات الوقاية ومعايير السلامة التي يجري تطبيقها فكذلك ليس بوسع أحد أن يزعم بأنه يستطيع منع حدوث الأخطاء الطبية بالكامل ولنا في واقع من هم أكثر منا تقدماً في مجالات الطب والعلوم العبرة والمثل، فرغم كل المعايير والضوابط المطبقة في المستشفيات الأوروبية فقد أظهرت دراسة نشرت متضمنة استطلاع آراء المواطنين في مجموع الدول الأوروبية الخمس والعشرين حول ما إذا كانت الأخطاء الطبية في بلادهم تمثل مشكلة كبيرة حيث أجاب 97 % من الإيطاليين بنعم وأجاب 48 – 50 % من مواطني شمال أوروبا ( فنلندا و الدنمرك ) بنعم وكان المتوسط العام لآراء جميع الأوروبيين هو 78 % يرون أن مشكلة الأخطاء الطبية تمثل مشكلة حقيقية وهامة في بلادهم ... وفي الولاياتالمتحدة يعتقد بأن نحو 22 % من السكان يتعرضون لشكل من أشكال الأخطاء الطبية، وفي سنة 1432 قامت وزارة الصحة السعودية بإحالة 1547 قضية خطأ طبي علي الهيئات الطبية الشرعية تم ادانه 160 حالة وفاة منها كخطأ طبي ونحن هنا لا نردد هذه الأمثلة على سبيل البحث عن تبريرات لما حدث أو يحدث من أخطاء طبية في بلادنا بل أن الهدف من ذلك هو التأكيد على أن توقع عدم حدوث أي خطأ طبي هو بحد ذاته خطأ .إن الأخطاء الطبيه تحدث3 في جميع مستشفيات العالم ولا يتم إغلاق هذه المرافق نتيجة ذلك بل يتم اتخاذ التدابير اللازمه التي تركز على التعرف على أسباب الخطأ أولاً ومعالجه الأخطاء لعدم تكرارها دون الأضرار بالمرضى والمراجعين لهذه المرافق. وأن علينا بدلاً من الانسياق وراء العبارات الجوفاء والتصريحات المتشنجة التي لا تحقق مصلحة ولا تقدم حلاً, أن نبذل قصارى جهدنا في البحث عن الثغرات التي تنفذ منها هذه الأخطاء لنقوم بإغلاقها وذلك يأتي عبر مسالك عديدة تؤدي في مجملها إلى تطوير امكانيات البشرية والمادية والفنية والتنظيمية... ودعم وسائلنا و آلياتنا الرقابية وتسخيرها لرفع مستوى أداء العاملين في القطاعات الصحية بدلاً من تصيد أخطائهم وتشويه إنجازاتهم. لذا فإنني أرى ومعي الكثيرون استناداً إلى كل ما سبق أنه مع الإقرار بحدوث خطأ أدى إلى وفاة الطفل صلاح الدين يوسف جميل يرحمه الله غلا أن قرار إغلاق المستشفى ونقل المرضى بالصورة التي تمت كان قراراً جانبه الصواب حيث لم يأخذ بعين الاعتبار مصالح المرضى والمراجعين ولم يراعِ الأوضاع الصحية المتأزمة بصفة عامة في مدينة جدة بل أدى الى تفاقمها ... وإنني على ثقة من أن معالي وزير الصحة لديه من الحكمة والشجاعة ما يمكنه من إعادة النظر في دواعي وحيثيات قرار الإغلاق وتبني قرار شجاع يسمح بتمكين أقسام المستشفى من معاودة تقديم خدماتها للمرضى والمراجعين ويستثني من ذلك الأقسام التي تثبت مسؤوليتها عن الأخطاء التي حدثت بالمستشفى وذلك لإعطاء الفرصة للجان المختصة لاستكمال التحقيقات وتحديد المسؤوليات، وقد يرى معاليه تشكيل لجنة محايدة تتولى التحقيق في الموضوع من جميع جوانبه ومراقبة سير العمل بالمستشفى إلى حين صدور الأحكام النهائية في القضية. ولعل من المناسب أيضاً في هذا السياق أن تقوم وزارة الصحة بإعادة تقييم شاملة لطبيعة العلاقة القائمة حالياً بين الوزارة ومستشفيات القطاع الخاص بما في ذلك أساليب مراقبة العمل وتقييم الأداء وإجراء التحقيقات وإيقاع العقوبات على أن يتم ذلك وفق معايير ومقاييس علمية ومنطقية تحقق مزيداً من الفاعلية في الإشراف والرقابة والمتابعة .. ومزيداً من المهنية والمرونة في التعامل مع المستجدات والأحداث. والله من وراء القصد