القادة يأتون في لحظة دقيقة من الزمان فيسطرون على صفحات التاريخ نهجهم الذي تسير عليه الأمة.. أولئك القادة الأفذاذ الذين لهم في صنع شعوبهم قيمة لا تضاهيها قيمة. ويأتي في هذا العصر الحديث الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، قائداً فذاً بل كان سابقاً لعصره ولمجائليه فقد كان ينظر إلى المستقبل نظرة استشراف دون التفريط في الماضي أو الافراط في الحاضر كان ينطلق من ذلك الماضي آخذاً منه العبرة بلماحية القائد المستشرف للمستقبل من هذا الحاضر الزاهر في لحظة نادرة الامساك بها. لقد كتب الكثير عن مدى قدرته على إدارة – الرجال – وتلك مهمة صعبة أن تدير الرجال فيتفانون في حبك فيتوافقون وفق رؤيتك فيذوبون فيك إخلاصاً وتفانياً. لقد كان،رحمه الله،حاكماً لا يرى الأمور إلا في نصاعتها وبياضها لا يعرف المحاباة إن كان الموقف هو الفصل بين الحق والباطل فالكل لديه سواء فهو يعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال.. انظر حوله من هم الرجال الذين اختارهم بجانبه إنهم في معظمهم من خارج نسيج البلاد لم يتحسس منهم أبداً بل كانوا محل ثقته لأنه أعطاهم قدوة الثقة وقدرة الثقة في نفسه بل ذهب إلى أكثر وأعمق من ذلك عندما ساس أمته بمنظار واحد هو صدق المواطنة والمواطنة فقط. تحضرني هنا هذه القصة ذات الدلالة في مرماها وفي معناها والتي سمعتها من الأستاذ محمد حسين زيدان ولاحقاً من الأستاذ حسن مصطفى الصيرفي، رحمهما الله، تقول القصة: عندما أتى الملك عبدالعزيز إلى المدينةالمنورة لأخذ البيعة من أهلها أقيم له حفل كبير في محطة القطار "الاستيصون" في باب العنبرية فتقاطر سكان وأهل المدينة الطاهرة طوابيراً يتدافعون لتقديم البيعة في منظر تاريخي عزيز. وكان هناك تشاحن بين اثنين من أهلها أهل المدينة المحبة الحبيبة فعندما تقدم أحدهما مصافحاً الملك ومقدماً بيعته رفع الآخر صوته قائلاً يا عبدالعزيز هذا – فلان – وذكر اسمه، الذي حاربك في العوالي. فما كان من الملك عبدالعزيز الذي أدرك ما يرمي إليه ذلك القائل من دس وإيغار على قبيلة الشاحن عليه : فهز يد مصافحه مرحباً به وهو يقول له:" معزب معز به معز بنا يا فلان – وسماه وترى "يا فلان" إنت معزبنا وأنا حاكم أبدان ماني حاكم اديان". هذه الرؤية الصافية والبالغة الدقة هي رؤية الحاكم الذي يسوس أمته بالعدل والرعاية الكريمة وهي التي جمعت الناس حوله،رحمه الله، حيث كان الناس كل الناس لديه سواء لاحساسيات ولا طائفيات ولا عنعنات ولا فوارق تشتت الأمة هكذا أسس البلاد. لقد استطاع ذلك الملك الفاره في كل شيء بلماحية الحاذق أن يفوت على "ذلك الشاض" ما كان يرمي إليه وينشده من قوله ذاك. لقد كانت إشارة منه،رحمه الله،مشبعة بكل صور القيادة البصيرة لديه التي تنشد بناء أمة وقيام دولة، الكل لديها سواء في رعايتها لهم لا طائفية ولا إبعاد أو إقصاء. بهذا الفكر وبذلك السلوك استطاع أن يتخطى كل عقابيل التأسيس وهي عقابيل شديدة القسوة بل صعبة التداول، وأصبحت تلك سياسة القادة من أبنائه من بعده حتى أصبحت بلادنا بهذا الالتفاف البهي نحو قيادة هذا نهجها وتلك سمتها على مدى التاريخ هذا التاريخ المشرق مضرب المثل في الوحدة تلك الوحدة التي تظلل أرجاء هذا الوطن بكل أطيافه القبلية. إن بلادنا وهي تعيش عصرها الذهبي تستمد قدرتها على الصمود من ذلك المنهج المتين والراسخ الذي أرساه مؤسسها وجعله ديدن قادتها لتنعم بهذه الوحدة الوطنية النادرة في هذا الزمان الذي تتصارع فيه الشعوب وتتقاتل فيه الطوائف وتذهب ريحها هباءً. وشذراً مدراً.. دام عزك يا وطن.