من الممكن أن نصادف في حياتنا أناساً تجاوزوا مراحل عمرية متقدمة، أو يتقلدون مناصب عليا في أماكن مهمة، أو يظهرون ذكاءً أو براعة في مجال معين كالرياضيات أو الفيزياء، ورغم ذلك فهم مازالوا يتجاوبون مع المحيط والبشر بطريقة غير ناضجة أو يمكن وصفها بالطفولية، بمعنى أن ردود الأفعال التي يمارسونها نتيجة للتفاعل مع المحيط و البشر تكون غالبًا شبيهة بتصرفات الأطفال، فالطفل عادة عندما يتعرض للضغط من أقرانه المتسلطين أو ممن يكبرونه سنا، أو يتعرض للصدمات العاطفية أو حالات الحزن أو الإحباط يبدأ بالبكاء والصراخ أو ربما تجاوب بطريقة عدوانية كالشتم والصراخ. يتصرف الطفل عادة دون تفكير متجاوبا مع عواطفه وانفعالاته وهو لا يحسب لعلاقاته على المدى الطويل أي حساب ولا يعبأ أحيان كثيرة لصورته في أعين الناس إلا عند بلوغه سن معينة هذا إذا كان نموه طبيعيا. الطفل عادة يتعجل النتائج، وإذا أراد شيئا أراده الآن ليس في وقت آخر، وفي بعض الأحيان تجده يقضي وقتا ممتعا في إيذاء الآخرين والتحرش بهم، الطفل يصعب عليه تفهم حاجات الآخرين والتوفيق بينها وبين حاجاته كما أنه نادرا ما يتقمص شعور الآخرين، ويصعب عليه الالتزام تجاه أمر ما في ظل وجود المغريات من حوله، وهو لا يفهم الكثير من الأمور مما يفترض بالكبار فهمها كالحاجة إلى النظام، النظافة، الحاجة إلى الراحة والنوم، الادخار، والتعلم و العمل والحاجة إلى الكسب، لماذا يمرض الناس ولماذا يموتون؟ وكيف ولدتني أمي؟ ومن أين أتيت؟ و أين الله؟ و أمور أخرى . و حتى لا أتحامل على الطفل كثيراً في مقالي فإن الطفل له أعذاره في كل هذا، فهو لم يحصل على فترة كافية في الحياة تؤهله لفهمها (أو محاولة ذلك)، ولم تسنح له الفرصة ليمتلك أدوات لتطوير ذاته أو الحصول على إجابات مرضية لأسئلته الملحة، الخبرة والمعرفة التي يمتلكهما لا تجعلانه قادرا على المقارنة مع أحداث سابقة لأن معظم ما يحدث أمامه يحدث للمرة الأولى، وسيكون من الظلم أن نعاقبه أو نحكم على قدراته من خلال التجارب الأولى في الحياة، الطفل عادة ليس لديه القدرة ليضع قوانين "Ground rules" لتحركه خلال أي منظومة اجتماعية، و ليس لديه القدرة أن يعرف من تلقاء نفسه أين تنتهي حريته وأين تبدأ حريات الآخرين، كما أن الحس القيمي لديه لم يعط الفترة الكافية ليتطور فيحفزه أو يمنعه لعمل شيء ما، وهو لا يعرف كيف يمكن أن يبدي آراءه المخالفة لغيره دون أن يسيء إليه أو يبدأ بالصراخ في وجهه ما لم يعلمه أحد عكس ذلك. ويمكننا من خلال الاختلاط بالآخرين أن نجد أن كثيرا من الكبار مازالوا غير ناضجين وجدانيا وانفعاليا، حيث أن دود أفعالهم تتشابه إلى حد كبير مع الوصف السابق للطفل، ولا يمكن الحكم على النضج من عدمه لدى الكبار حتى يطبق عليهم ضغطا معينا يستفزهم للقيام بردود أفعال تعكس مدى نضجهم من عدمه، وهي طبيعة الحياة فلا حياة بلا ضغوط، لذلك فهناك فرصة كبيرة لمراقبة تصرفات الناس والتعلم من أخطائهم. لكن يبقى السؤال : هل هناك عذر للكبار في عدم نضجهم وسلوكهم الطفولي؟ إن الأفراد هم من يشكلون المجتمع وكنتيجة تلقائية لكون معظمهم غير ناضج أن يكون المجتمع في مجمله غير ناضج! ومن الممكن أن يتأخر نضوج المجتمع أو أن يتوقف نموه عند حد معين، فالمجتمعات التي لا ترى إلا تحت قدميها، تستنزف كل مالديها، تعبث في أوقاتها، لا تلتزم بشكل مستمر بخطط ولا أهداف، لا تتحرك من تلقاء نفسها أو تتحرك بشكل عشوائي في معظم الأوقات و كنتيجة للضغوط المطبقة عليها فقط، المجتمعات التي يحتك أفرادها ببعض بعدوانية ظاهرة، ولا تجد بين حواراتهم ما يمكن أن تصل في نهايته إلى نتيجة أو إلى تصور لما كانوا يتراشقون من أجله، المجتمعات التي لا تحاول الإجابة على اسئلتها الملحة أو ترتجل بفوضوية حلولاً آنية، والمجتمعات التي لا تدرك حاجاتها الأساسية وتخلط بين كلمتي "التطور والترف"، "الكرم والبذخ"، "الرجولة و العربجة"،" العصبية والدين". المجتمعات التي لا" تصنع" ولا" ترى" جمالا، المجتمعات التي تلدغ من نفس الجحر خمسين مرة.. تختار الجمرة وتترك التمرة في كل مرة ! هي مجتمعات طفولية لم تنضج بعد! و لي أن أفرق هنا بين أن يتمتع الإنسان بحس الطفولة الذي يمكنه من الاستمتاع بالحياة وحب الاستكشاف، و بين التصرف بطريقة غير مسئولة وغير ناضجة، فبينهما فرق واضح و كبير ! النضج مطلب ملح وواقعي لما نحن مقبلين عليه في السنوات القادمة، نحن هنا ضمير منفصل "عائد" على الوطن بكل تأكيد، ولا بد أن نعي أن مزيدا من الفوضى لن تخدم الوطن، وأن مزيدا من العنف لن يزيدنا إلا ضعفا و انكسارا، النضج حالة تسبق الحضارة، و هي كلمة لا تعني بالتأكيد أن نصبح جادين طوال الوقت، وأن لا نستمتع بأوقاتنا كما يفعل الآخرون، لكنها تعني أن لا تصبح كل أوقاتنا عبثاً في عبث، والعبث في رأيي ثقافة مستعصية لا يمكن فك طلاسمها دون نضج وجداني وانفعالي يمكننا من الإحساس بقيمة الحياة التي توهب للإنسان مرة واحدة، فإما أن يعيش الإنسان فيها خاويا و سطحيا يعبث ويلهو دون الشعور بالمسئولية، وإما أن يهب حياته لرسالة سامية يعيش من أجلها ومن أجل الأجيال القادمة.