ما زلت أذكر ذلك اليوم منذ نحو عشرين عامًا الذي تسلّقت فيه ذلك المبنى الشاهق في قلب جوهانسبرج عاصمة جنوب إفريقيا الاقتصادية لرؤية الرجل الذي ينحني العالم إجلالاً لتضحياته الجسورة حتى انتصر بإرادته المجردة وبصمود الشعب الجنوب إفريقي على العنصرية البغيضة وإقامة نظام ديمقراطي ينعم فيه الجميع بالحرية والمساواة.نيلسون مانديلا كان قد خرج لتوه من السجن بعد أن قضى سبعة وعشرين عامًا وراء الجدران مدافعًا عن فكرة ومقاتلاً من أجل مبدأ، أن ينتصر على التفرقة العنصرية التي كانت سائدة كنظام حكم وحياة في بلاده، تستبعد الأغلبية السوداء من الحياة الحرة الكريمة، وتعامل الجميع بصورة دونية دون أدنى حقوق مدنية أو سياسية. كافح بإرادة لا تلين وبعزيمة لا تعرف اليأس أو الخوف.. ورغم ظلمة الزنزانة ورطوبة الهواء البارد لم يتنازل أو يتراجع أو يضعف في أية مرحلة من مراحل حياته المديدة. الانتقال السلمي للسلطة في ذلك الوقت لم يكن قد تحقق بين رئيس الوزراء الجنوب إفريقي وليم دوكليرك والمناضل مانديلا، وكان الرجل الشامخ مثل سنديانه إفريقية قد خرج لتوه من سجن روبن في تلك الجزيرة المعزولة وسط البحر، كانت إلى جواره زوجته المناضلة ويني مانديلا ترفع يدها بشارة النصر قبل أن تنسحب في هدوء تاركة الرجل القامة يصارع بقناعاته الراسخة بقايا التمييز العرقي والفصل العنصري حتى انتصر وأصبح أول رئيس مواطن لدولة جنوب إفريقيا التي باتت تنعم بنظام ديمقراطي فريد في القارة السمراء التي كانت مسكونة بالانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار السياسي. ذلك المبنى الشاهق كان مقر المؤتمر الوطني الإفريقي الذي يتزعمه مانديلا، واحتفى العالم بأسره بصورة رائعة وكريمة ومشرفة بانتصار الرجل وإعادة الحقوق إلى أهلها الأصليين الذين عانوا الأهوال خلال سنوات الفصل العنصري، وتحققت النبوءة وخرج أطفال جنوب إفريقيا ونساؤها ورجالها يهتفون للحرية ويحملون صورة الزعيم الذي ترك السلطة في تدرج سلمي لزعامات شابّة من المؤتمر الوطني بعد أن أرسى أساسًا قويًا لدولة شامخة ووطن عريق. نيلسون مانديلا الذي يبلغ الآن من العمر 94 عامًا يرقد في المستشفى للمرة الثالثة في وضع حرج وصفته بعض صحف جوهانسبرج بأنه وضع مخيف، وبدأت الدعوات بالصلاة لمانديلا بأن يمنّ الله عليه بالشفاء.. وبعد هذا العمر المديد والتضحيات الجسورة قد يرحل الزعيم الإفريقي الذي يلقب بالرمح بعد أن سجل مسيرة عطرة للأجيال في جنوب إفريقيا وفي العالم الثالث وتعلمنا منه كيف تكون التضحية وكيف يكون الفداء حتى أصبح مانديلا أيقونة للحرية وكتابًا مفتوحًا، علينا جميعًا أن نطالع صفحاته لنعرف ونتعلم ونرى كيف تكون الزعامة.. مانديلا وإن رحل عن عالمنا سيبقى شاهدًا من شواهد القرن العشرين وسنكون سعداء لأننا عشنا في زمن نيلسون مانديلا العظيم.