قديما في الأرياف كان هناك حلاق القرية أو المدينة يمارس بالإضافة إلى أعمال الحلاقة مهنة الطب .. كان يمكنه أن يقوم بعملية جراحية صغيرة أو قلع أسنان أو غلق جروح .كان لحلاق القرية مكانته المرموقة والمحترمة .. وكان أيضا موضع تقدير من العُمدة .. فهو الحلاق وهو الطبيب و كاتم الأسرار .. ومضت السنوات .. الحلاق الطبيب صار له منافس .. منافسه يحمل شهادة معترف بها في الطب .. يمارس مهنته .. نظر أهل القرية لهذا الطبيب الشاب نظرة استهجان وقرروا أن الحلاق هو الطبيب وان هذا الشاب هو دخيل ولا يجوز له أن تكشف له الأسرار .. صبر الشاب وصاروا مجموعة من الشباب .. أثبتوا وجودهم في مهنتهم واستطاعوا أن يعالجوا الجروح بمواد طبية معقمة بعدما تلوث بمواد الحلاق المسممة .. ارتاح جمهور القرية لهؤلاء الأطباء الشباب .. وتراجع الحلاق وأصبح حلاقا يُفرض عليه أن يراعي النظافة الطبية مع زبائنه وألا يتجاوز حدود مهنته. لقد تساءل هؤلاء الشباب الأطباء في بادئ عملهم .. هل حلاق القرية وهو يمارس عملاً طبيا يمكن أن يطلق عليه طبيب ؟ كان الجواب كلا بالطبع .... ثم تساءلوا هل كون الحلاق غير طبيب منعه من مزاولة وممارسة ما يدخل في نطاق مهنة الطب .. أيضا كان الجواب .. كلا بالطبع. هنا علينا أن نتعمق فيما حدث مع مضي الوقت .. كانت الأعداد تتزايد في الالتحاق بكلية الطب ... وتحول مفهوم " أن الحلاق أكثر قدرة من الطبيب " إلى مفهوم " الطب مهنة لا يزاولها إلا من يحصلون على ترخيص من الدولة " .. وهذه التراخيص أصبحت مشروطة ، ولم تعد شهادة الطبيب هي فقط بوابة ممارسته للمهنة ، بل اجتيازه بنجاح في امتحانات المزاولة .. فأصبحت المهنة لها ضوابطها وقوانينها ولم تعد وفق " مزاج الحلاق " أو " رضا العمدة " . الحياة تتطور ولا تعود للخلف .. فحين كان مستشار التعليم أيام الاستعمار خبير صناعة الأحذية والجلود، لم يكن هو التعليم الذي أسسه وطوره عباقرة العلم واستطاعوا ان يأخذوا بالبلاد من الجهل إلى العلم والتقدم وتصبح قِبلة العلم والعلماء . القصة لا تبدأ بالتعود على شخص أو على عادة .. بل تبدأ بالعلم والمهنية والتقدم .. في الأولى الجهل هو مرجع الموقف والقرار والرضا ، وفي الثانية فإن التطور والإبداع ومواكبة العلم هو القرار والخلاص الحقيقي لكل شعب يرنو إلى الخلاص من التأخر والجهل .لقد أصبح الإبداع في التخصص دلالة على تقدم المجتمعات وأصبح الناس يسافرون من أوطانهم إلى آخر الدنيا لكي ينهلوا من تخصصات نادرة أو تختص بها بلاد عن بلاد .. لم تعد الشهادة والتخصص بوابة لكي يصنف المجتمع بأنه متطور ، بل أصبح التطور مرتبط بمفهوم كيف نحافظ على الحياة ونقلل من الوفيات ونعالج المرضى بأدوية لها أقل تأثير سلبي وأكثر تأثير طبي علاجي في نفس الوقت. في هذا الزمن لا عودة الى الحلاقين لكي يمارسوا الشعوذة باسم الطب ، ولا عودة لخبراء الجلود ليرسموا للبلاد مناهج التعليم .. سنتقدم سريعا إلى الحضارة والى أن نكون في مقدمة الشعوب فنحن أصل الحضارة ومنبع كل العلوم ولدينا الإنسان القادر على أن يوظف عقله لهذا الإبداع في حال توفرت الإمكانيات .. نحن أمة بخير طالما احترمنا العلم والعلماء والتخصص والمبدعين وأصحاب الرأي الصادقين .. وسوف نتأخر ونعود للخلف كلما حولنا هؤلاء العلماء إلى متسولين لقوت أطفالهم أو على حافة الفقر والجمود لأننا لا نعترف بمكانتهم ولم نوظف لهم المواقع التي تليق بهم وبعلومهم.