ثمة علاقة بين السعادة ومستوى المعرفة لدى الفرد.. فأحياناً يشقى الإنسان بمعرفته حيث تطارده الأسئلة والأشياء الغامضة والأمور المضنية فينفق وقته وذهنه في إماطة اللثام عن ذلك المجهول في حياته ومن ثم يعكف على المعرفة ويظل في حالة اطلاع مستمر، وكلما انتهى إلى معلومة أو حقيقة دعاه ذلك إلى البحث عن حقائق أخرى.. وبذلك يشقى بمعرفته ببذله جهدا مضنيا مستمرا وراء البحث وكثيراً ما يكون عن أمور غامضة.أما الذين لا يعلمون فإن السقف الأعلى لسعادتهم يكون أمورا بسيطة قد لا يلقي لها بالاً العارفون بها تماماً كما يختلف الأمر بالنسبة لما يسعد فقيراً وما يسعد غنياً، فيما يسعد إنساناً فقيراً أشياء بسيطة قد لا تسبب أي سعادة للإنسان الذي تسعده أشياء أخرى، وربما أرقام فلكية لا يحلم بها الفقير. وكذلك الفقراء في العالم والمعرفة.. فإن ما يسعدهم يكون أقل بكثير مما يسعد أصحاب المعرفة والمثقفين. فالمعرفة أحياناً تتحول إلى مطارق في الرأس تدق وتسبب الصداع والوجع والحيرة.. أما البسطاء في المعرفة فشواغلهم تكون محدودة وهمومهم مقتصرة على أمور بسيطة هينة لا تسبب ذلك الألم الذهني فهناك نقطة بالغة الأهمية وهي أن المعرفة إذا زادت عن الحد تشقي صاحبها وتسبب له حيرة وإرهاقاً ذهنياً، فكما قال أبو الطيب المتنبي: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم فالمعرفة لا تترك الذهن بارداً ولا مسترخياً.. بل إنها تضخ كماً هائلا من الدوافع وعلامات الاستفهام اللحوحة التي تستنفر طاقات الإنسان وتأخذه من محيطه الاجتماعي فيعيش حالة وجدانية مع مواضيعه المحيرة تنغص عليه حياته وتدفعه إلى الشعور بالوحدة والقلق وعدم الاستقرار، وهذا ما عبر عنه سليمان الحكيم في قولته الشهيرة، إن في كثرة المعرفة كثرة الغم.. والغريب أن سليمان الحكيم هو نفسه القائل.. رأيت أن للحكمة منفعة أكثر من الجهل كما أن للنور منفعة أكثر من الظلام.. وهذا صحيح أيضاً ففي بعض الأحوال تكون المعرفة والحكمة نقطة ضوء تضيء الدروب المظلمة وتجعله يميز بين الخطأ والصواب.. أو الخير والشر.. وأحياناً ما نجهله يجعلنا في حيرة بحيث لا نعرف الخلفيات وما يدور وراء الستار. ولكن حينما نعلم فإننا نصوب تقديراتنا ونصحح أفكارنا، وبالتالي تساعدنا المعرفة على اتخاذ قراراتنا بدرجة سليمة.. فليست المعرفة دائماً مصدر شقاء أو سعادة.. ولكن طريقة استثمار الإنسان لهذه المعرفة هي التي تحدد له قدر سعادته أو كم سعادته.. فمهما أشقت المعرفة صاحبها وسببت له التعاسة إلا أن تلك المعرفة هي التي تحول طلاسم الحياة.. وظلام الجهل إلى هالات من النور والبهاء وهي التي ترفع مقام المرء ليس فقط أمام الآخرين ولكن أمام نفسه أيضا.. فذلك النور الذي ينقله صاحب المعرفة والمعاناة إلى من حوله ويضيء نفسه لا يقتصر أثره على هؤلاء فقط بل قد يشمل الكون كله ويضيء الدروب جميعها لكل من يبحث عن نقطة ضوء يلج منها إلى العالم الخارجي وإلى دواخل ذاته.