في عصرنا هذا يمثل المبدع في العالم حالة استثنائية وغريبة وسط محيط وصل إلى أدنى الدرجات في الفكر والذوق والفن، ففي بعض دول العالم كل الظروف تقف ضد المبدع وكل الأمور عكس اتجاهه، أمنياته ميتة وطموحاته مقتولة، الأمواج عاتية في حياته، حيث دائماً تكون الغلبة للأمواج وهو الخاسر بجدارة لأن قاربه ضعيف متهالك، يحاول البحث دائماً عن قشة النجاة بين أمواج التخبط والتيه والضياع، وليس باستطاعته تحمل تبعات الرياح وأهوال الأمواج فهي تحمل له هدايا متنوعة وهموماً ثقيلة: نسيان، قمع ،إهمال، معاناة، فقر. وفي الجانب الآخر قد يتمرغ الفساد في أشكال النعيم ، ويلتف الناس حول أصحاب التسالي وكل من له غاية في تلويث مسامعهم وطمس قلوبهم وتغييب قيمهم، أما المبدع الذي يبني الأوطان بفكره وعلمه وأدبه ويعمر المجتمعات بعصارة جهده وتعبه فسبيله إلى الغربة والتشتت والتمزق بين البحث عن القوت اليومي والغرق وحيداً في عوالم الإبداع، بل يعيش مجهولاً بين الناس ولا يجد من يقدر قيمته وما تحمله من إرهاق فكري وتعب نفسي لتوصيل أفكاره وقضاياه، أما إنتاجه وثروته الفكرية فطريقها نحو سلة الإهمال وعباءة النسيان لأن الناس في هذا الزمن يزرعون في قلب المبدع كل أشكال الإحباط وأنواع اليأس وخصوصاً حينما يعزف جلهم عن القراءة ويتحاشى معظمهم كل ما له صلة للإبداع بل يقفلون آذانهم أمام كلماته خوفاً من عدوى تصيبهم بالملل والضجر والاكتئاب، لذا لن يصبح بإمكان المبدع سوى العيش غريباً. أما قلمه فستناله اللدغات وأنياب الإهمال من القريب والبعيد وربما من ناحية الفئة التي لا يتوقع غدرها من بعض أهل الأدب والعلم والثقافة، وإذا كان محظوظاً قليلاً في حياته الصعبة سيرزقه الله بعائلة أكبر في أمته تقدر سمو فكره وتحترم رفعة أدبه وتتبنى قضيته وهمومه. والخلاصة إذا لم يعد للمبدع في بعض المجتمعات بعدما تنقضي حياته سوى التاريخ ليقول كلمة الفصل في حقه المهضوم، والأكيد أن حقه لن يضيع هدراً.