العالم لم يشهد من بدء الخليقة تطوراً في شتى مجالات الحياة يوازي ذلك الذي عاشه في العقود الماضية منتقلاً بالبشرية إلى عصر جديد أصبحت فيه المعرفة هي الفيصل في تقدم الأمم ورقيها، وباتت تطبيقاتها التقنية والتكنولوجية هي المتصدرة من حيث الأهمية بدلاً عن القوى العسكرية والاقتصادية التي كانت حجر الزاوية في عصور الثورة الزراعية والصناعية.ومن التطورات الأهم في هذا السياق هو نشوء ما يطلق عليه "اقتصاد المعرفة" فمع بداية الألفية الثالثة تجاوز حجم السوق العالمية للمعلوماتية الترليوني دولار، وقد أثر هذا النمو في جودة ونوعية حياة الإنسان وبشر بتنمية بشرية مستدامة قادرة على استيعاب المليارات التي يكتظ بهم العالم. أصبحت المعرفة مورداً اقتصاديا أساسياً يفوق بأهميته الموارد الاقتصادية الطبيعية، بل إن القيمة المضافة الناتجة عن العمل في التكنولوجيا المعرفية تفوق، بعشرات وربما مئات المرات، القيمة المضافة الناتجة عن العمل في الزراعة أو الصناعة التقليديتين. ولأن البقاء لم يعد للأقوى بل "للأعلم"، نحن بحاجة إلى إنسان عربي يتلمس المعرفة بشغف في وسائلها المختلفة ويتعامل معها بحس نقدي وحكمة منهجية للتفريق بين المعلومات والمعرفة وتمكنه من إيجاد سبل ناجعة للاستفادة منها على أرض الواقع. وبناء على ما سبق الحديث عنه، أستخلص بأن أزمات مجتمعاتنا الكثيرة هي في جوهرها أزمة تعليمية وتربوية أدت إلى فشلنا في استيعاب المتغيرات التكنولوجية والاقتصادية التي وأثرت بشكل سلبي على التنمية الاجتماعية ومختلف جوانب الحياة. لذا فمن البديهي أن يبدأ الطريق الذي سيقودنا إلى مجتمع المعرفة بالارتقاء وتحديث مؤسسات نشر المعرفة من جامعات ومدارس وكليات ووسائل إعلام، ومن خلال دعم الترجمة ومؤسسات إنتاج المعرفة من مراكز بحث علمي وتقني وتأليف.ومن الأهمية بمكان توفير المساندة اللازمة لخلق بيئة محفزة للإبداع والبحث العلمي والريادة الاجتماعية وصقل مهارات التفكير النقدي في كافة المراحل التعليمية. فالتعليم بلا تفكير جهد ضائع وإذا لم تنمَ قدرات المتعلم النقدية والتحليلية فإن الحكمة قد تضيع في خضم المعرفة على حد تعبير تي. إس. إليوت وستصبح المعلومات مهما كان حجمها دون أي جدوى على أرض الواقع.كما أن الشباب الذي يشكل غالبية سكان العالم العربي يمثل مورداً بشرياً هاماً إذا استغلت طاقاته بالشكل السليم، لذا فإن الجهود لتأهيلهم وتمكينهم يجب أن تكون في قمة أولويات الأجندة العربية في السنوات القادمة. ومن يطلع على رؤية وأهداف مؤسسة الفكر العربي يجد بوضوح أنها تنسج رؤية ناضجة لتنمية مستدامة وتضع خارطة طريق نحو مجتمع معرفي عربي، وهذا ينعكس على الواقع من خلال كل الفعاليات التي تقوم بها المؤسسة منذ نشأتها قبل عقد من الزمان. ومن هذا المنطلق أعتقد بأن النقاش العملي حول الانتقال إلى مجتمع واقتصاد معرفي يجب أن يكون في صلب نقاشات فكره والقضايا التي ستطرح في أروقته أملاً منه أن يكون بوابة عبور للعرب تقودهم إلى تشكيل مجتمع معرفي متقدم ومستدام. ولا يسعني في الختام إلا أن أذكر بمقولة "المعرفة قوةط التي أدركها الفلاسفة والمفكرون منذ وقت بعيد وكتب عنها فرانسيس بيكون قبل أربعة قرون وهي اليوم تزداد توكيداً وتأكيداً في واقعنا وتذكرنا كعرب بأن العلم والمعرفة والتقنية هي العوامل الرئيسية في التحولات التي تشهدها البشرية في هذه المرحلة الحاسمة وهي السلاح الأول لمواجهة تحديات الألفية الجديدة .