مصطفى عبدالجليل منحنا الثقة في ليبيا الجديدة. تواضعه لله وسجوده وتكبيره في ذروة الانتصار الشعبي الكبير على عميد الطغاة، سمات يندر توفرها في القادة الذين يخرجون منتصرين في التحولات الكبرى. في إعلان تحرير ليبيا الكامل من نظام القذافي، شهدنا الرجل يقبل طفلاً ثم يتقدم للمنصة مذكراً الذين يطلقون الرصاص ابتهاجاً، بأن الله هو الذي أيد الثورة وحماها ونصرها، وشكره يكون بالسجود والتكبير. ثم سجد عبدالجليل لله الواحد القهار. كل من شهد هذه اللقطة تحرك قلبه بين ضلوعه لبراعة اللحظة. فلمن العظمة اليوم؟.. لله. لمن الشكر اليوم؟.. لله. كانت النخبة إياها قد انهمكت في المصطلحات نفسها التي نسمعها ليل نهار والتي سئمناها في مصر، ظناً منهم أن قادة ليبيا الجديدة سيتخلون عن الهوية أمام ابتزازهم. لكن قائد الانتصار صدمهم وهو يعلن بعد السجدة أنه لن تكون في ليبيا قوانين مخالفة للشريعة الإسلامية، وأول ذلك إعلانه إلغاء قانون حظر تعدد الزوجات، وقريبا الغاء الفوائد الربوية وإنشاء مصارف إسلامية، فالشريعة ستكون المصدر الرئيس لكل القوانين. قبل أن يتحدث عبدالجليل بتلك الكلمات الواضحة الصارمة الموحية التي لا لبس فيها ولا غموض، كان البعض يطلق تحذيراته من امكانية سيطرة الإسلاميين على الحكم الجديد، ويكرر نفس خرافات القذافي في ذروة حربه عن خطر القاعدة. لم تؤثر تلك الانطباعات والتحذيرات في عبدالجليل ولا في قادة الثورة، بل رد بوضوح وسط تصفيق وتكبير المحتفلين بأن انتفاضة سجن أبو سليم هي التي بدأت ثورة اقتلاع القذافي ونظامه وكتائبه الدموية. في ذلك السجن الذي لا يقارن به في التنكيل والتعذيب سجن الباستيل الفرنسي الشهير، احتجز المئات من الإسلاميين الذين راح عدد كبير منهم ضمن 1270 سجين رأي ذبحهم القذافي بدم بارد عام 1996 ودفنهم في مقابر جماعية بعد صب سوائل على جثامينهم لإذابتها واخفاء معالمها. هذه المذبحة نذكر بها الذين يتباكون على ما فعله الثوار في القذافي ونجله المعتصم. الشهداء الذين قتلهم الطاغية بدم بارد، هم الذين فجروا في الواقع ثورة 17 فبراير 2011. فقبل ذلك التاريخ بيومين اندلعت بمدينة بنغازي شرارة الثورة بسبب اعتقال فتحي تربل محامي الشهداء وخروج أسرهم لتحريره، فأطلقت كتائب القذافي الرصاص عليهم لتقتل وتصيب حوالي 400 شخص. ثم اندلعت ثورة عارمة في كل المناطق الشرقية، حتى تم في 25 أغسطس الماضي اسقاط سجن أبو سليم وتحرير السجناء الذين كانوا يقبعون في داخله ويتعرضون لأبشع ألوان التعذيب بسبب آرائهم ومعارضتهم لنظامه ولأفكاره الشاذة والمنحلة، وربما كادوا يلحقون بمن سبقهم في مذبحة جديدة لو لم تقم الثورة وينتهي نظام الطاغية. تحرر مئات الإسلاميين من "الباستيل" الليبي، فقوبل ذلك بازدواجية المعايير من بعض النخبة العلمانية، فقد اعتبروا أن تنظيم القاعدة هو الذي خرج من سجن أبو سليم، وسيشكل ألوية خاصة به لانشاء دولة إسلامية متشددة في نهاية المطاف. لكنهم شكلوا في الواقع اضافة قوية للثوارساهمت في قيادة ليبيا لهذه النهاية الرائعة. نحمد الله أن مصطفى عبدالجليل لم يرهبه أو يخدعه صراخ النخبة، فانتصر لهوية ليبيا.