حين تتنوع زوايا الرؤية تبدو المقاربة أكثر عمقاً وأمضى نفاذاً إلى واقع الحال، حيث يتمكن الباحث من تفكيك الظواهر المركبة وإعادة قراءتها لتبدو كما هي مجردة من سياقاتها المضللة وانحيازاتها المغلقة. وحين يمتلك الباحث ذكاء المحلل السياسي، وواقعية أستاذ الاقتصاد الأكاديمي، وخبرة عالم الاجتماع، إضافة إلى حدس الشاعر وإشراقاته فإننا أمام «حالة» متفردة من عمق الرؤية ونفاذ البصيرة. هذا هو البروفسور «شاهد عالم» أستاذ الاقتصاد بجامعة نورث إيسترن الأمريكية وصاحب التوجهات الفكرية المناهضة للمشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني، والرأسمالية الليبرالية، والإمبريالية الأمريكية الحديثة، و نظريات صدام الحضارات، ونهاية التاريخ، وهو ما يظهر في العديد من المقالات الفكرية والتحليلات السياسية التي نشرتها له الصحف الباكستانية والأمريكية والنيوزيلندية، وفي كتبه المختلفة حول هذه الموضوعات . فرضت نظرية «صدام الحضارات» نفسها على الساحة الفكرية و السياسية بشكل كبير بعد صدور كتاب يحمل هذا الاسم «صدام الحضارات» ل «صمويل هنتنجتون»، حيث تم اختزال علاقات العالم في صيغ ثقافية صدامية. و ركز على الصراع بين الإسلام والغرب، وراح يروج عبر هذه الافتراضية إلى مرحلة جديدة من العلاقات الدولية. هذا التنظير لاقى معارضة حادة لدى التيارات الفكرية المختلفة حتى في الغرب نفسه، واعتبر محاولة لخلق «آخر» جديد يبرر للسياسة الخارجية الأمريكية في حقبة ما بعد الحرب الباردة. ويرى «عالم» أن أهم تطور حدث في القرون التي أعقبت رحلات «كريستوفر كولمبوس» و»فاسكو دجاما» هو عمليات «التعبئة» لطاقات وإمكانات الدولة والأمة لخدمة رأس المال. كانت البداية – كما يرى عالم - في اتجاه عدد لا يحصى من دول غرب أوروبا إلى الرأسمالية؛ حيث أعطت هذه الدول للمشروع الرأسمالي كل إمكانات الدولة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، ثم ظهرت تجليات هذا المشروع في السياسات الخارجية والعسكرية لأسبانيا والبرتغال أولاً، ثم هولندا و بريطانيا و فرنسا بعد ذلك، الأمر الذي تمخض عن عمليات التمدد الإمبريالي واحتلال أجزاء عديدة في العالم بشكل تدريجي. تحقق لهذه الدول ما أرادت من طفرة تجارية تمثلت في السياسات الاحتكارية للسلع العالمية آنذاك أعقبتها الطفرة الصناعية، أو ما يعرف ب»ثورة التصنيع» في الغرب الأوروبي، إضافة إلى الطفرة العلمية التي تجسدت في الزيادة المطردة في أعداد الجامعات و المراكز العلمية والمكتبات؛ كذلك تجلى نجاح الفكرة الرأسمالية في التقدم الاقتصادي المذهل لهذه الدول، والذي كرسته على نحو واسع في خدمة المؤسسة العسكرية. وجاءت بدايات القرن ال 19 لتحمل معها ملامح تحولات اقتصادية جديدة وجهت اقتصاديات هذه الدول إلى باطن الأرض بحثاً عن الوقودات الحفرية ومصادر الطاقة التي لا تنضب، الأمر الذي قاد إلى طفرة أخرى في العمليات التنموية، والمشاريع النهضوية، ودانت أغلب أجزاء العالم اقتصادياً ومالياً وعسكرياً لهذه القوى الرأسمالية لحقب تاريخية طويلة بدت و كأنها بلا نهاية، وتحولت دول الغرب الأوروبي من دول قطرية إلى إمبراطوريات اكتسحت في طريقها أغلب دول أفريقيا و آسيا و أمريكا اللاتينية؛ و تعمقت الهوة بين دول الغرب التي بدأت أعدادها في التزايد، وبقية دول العالم. ويؤطر «عالم» بهذا التحول لديموغرافيا اقتصادية جديدة تقوم على ثنائية قطبية تتكون من «مركز» و»محيط»، وتصطبغ العلاقة بينهما بالصبغة الإمبريالية حيث ارتكزت على احتكار «المركز» للموارد الاقتصادية لدى «المحيط». ومع تزايد المد الشيوعي وانحسار الرأسمالية العالمية لجأت الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى إستراتيجية «الحرب الباردة» لمواجهة الزحف الأحمر، وكان لها ما أرادت في العام 1990م، بفعل عوامل عدة، حيث انهار الاتحاد السوفيتي، وانهارت معه الأيديولوجيات الشيوعية والفلسفات الاشتراكية، الأمر الذي استحال سقوطاً عاماً للدولة النهضوية التي تأسست على أنقاض المستعمرات القديمة لبناء خصوصياتها الاقتصادية والحضارية على رؤوس أموال وتكنولوجيا و إيديولوجيات «محلية». ومرة ثانية تعود الرأسمالية العالمية بشكل أكثر توحشاً وتقنية؛ حيث يتولى صندوق النقد الدولي والبنك العالمي هدم أسوار الاستقلالية لتعود من جديد خريطة دول «المركز» و دول «المحيط» و لترزح الثانية تحت نير الأولى عبر قواعد دولية تفرضها منظمة التجارة العالمية يخضع من خلالها المحيط لاقتصاديات «الباب المفتوح» الذي فقد معه البقية الباقية من استقلاله الذي حققه في الحقبة الشيوعية.