ترتكز عقلية التعليم التقليدي على عملية نقل المعلومة من الكتاب أو من رأس المعلم إلى المتعلم...فقط !! وقد كانت هذه الطريقة صالحةً في أزمان ماضية حيث كانت العلوم في غالبها ذات صبغةٍ نظرية ترتكز على الحفظ والاستظهار كما أنّ عملية التعليم كانت تتم في اتجاهٍ وحيد من المعلم إلى المتعلم، ولذلك كانت قياسات نجاح المتعلم تعتمد على الكم الذي يستطيع حفظه وعلى أمانته في تقليد معلمه بوصفه صاحب العلم،وقد تجاوزت كثيرٌ من مجتمعات العالم هذه النظرة الاختزالية التسطيحية للتعليم فحرصت على إعلاء القيمة الكيفية للعلم على حساب الكم،وحرصت كذلك على وجود العملية التفاعلية بين المعلم والمتعلم بشكلٍ كبير،وحين النظر في التعليم لدينا سيبدو واضحاً للمنصف أنّنا لم نبتعد كثيراً عن عقلية الكتاتيب وتقليدية التعليم،وقد كان ذلك مفهوماً ومبرراً في بدايات التعليم لدينا قبل بضعة عقود حيث كانت الأميّة مسيطرةً على المجتمع بشكلٍ شبه كامل،فكان الهدف الأساسي هو القضاء على الأمية بشكلها البدائي المتمثل في العجز عن القراءة والكتابة والعمليات الحسابية البسيطة،وكان من المفترض بعد نجاحنا الكبير في تحقيق هذا الهدف أن نتحول بالعملية التعليمية إلى شكلها الحديث والحقيقي ولكن ذلك لم يحدث للأسف! فبدلاً من الصعود المفترض للمنحنى البياني للعملية التعليمية بكافة جوانبها رأينا هبوطاً حاداً في جميع الجوانب باستثناء الجانب الكمي المتمثل في عدد الطلاب والمعلمين والمدارس، فالمعلم قبل بضعة عقود كان أكثر كفاءةً وإخلاصاً،والمنهج في تلك الفترة كان أكثر علميةً وانفتاحاً مما هو عليه الآن،والطالب كان أكثر تعطشاً للمعرفة وأصدق تفانياً في التعلم والتحصيل رغم قسوة ظروف تلك الأيام.وليس من المنصف أن تتحمل وزارة التربية والتعليم بمفردها وزر هذا الإخفاق،فالجميع يتقاطع مع التعليم ويؤثر فيه بل حتى الجهات غير ذات العلاقة بالتعليم تستطيع أن تعرقل بعض القرارات والمشاريع التطويرية والتحديثية،فالخطاب الديني يؤثر في التعليم والخطاب المجتمعي والسياسي والأمني كذلك مما جعل العملية التعليمية في كثيرٍ من الأوقات مسرحاً للصراعات الفكرية والسياسية والمجتمعية وقد ساهم هذا التصوير المصالحي الناقص الذي يعتبر العملية التعليمية بمثابة الكعكة التي يجب أن يستأثر كل فريقٍ بما يستطيع منها في تأخر تعليمنا وتكبيله بالكثير من المحاذير الساذجة والإشتراطات الجائرة والمستريبة.وفي عقلية الكتاتيب التقليدية ترتكز عملية التعليم على أربعة محاور المعلم والطالب والمكان الدراسي والمنهج،ففي ظل وجود المعلم بغض النظر عن كفاءته، وفي ظل توفر المكان بغض النظر عن جودته، وفي وجود المنهج بغض النظر عن قيمته، يحضر الطالب وتكتمل العملية التعليمية،هذا هو تعريف العملية التعليمية في عقلية الكتاتيب!!! وليس مستغرباً أن تكون مخرجات هذا التعريف السطحي للتعليم مخرجاتٍ في غاية الرداءة والنقص،فرغم العدد المبالغ فيه للحصص الأسبوعية لمواد الدين في كل المراحل تجد أنّ الشخص وبعد سنوات التعليم الطويلة لا يستطيع أن يحك رأسه حتى يسأل مفتياً! ورغم الكمية الكبيرة لحصص اللغة العربية لا تجد من يعرب لك جملةً بسيطةً أو أن يكتب لك بضعة جملٍ خالية من الأخطاء النحوية والإملائية، ومثل ذلك في بقية العلوم مما يجعل سنين الدراسة الطويلة ومناهجها الثقيلة مجرد عمرٍ ضائع وزرعٍ بلا حصاد. وقد ساهمت وفرة الفرص الوظيفية وقلة المتنافسين عليها والسبل الممهدة لخريجي نظامنا التعليمي قبل بضعة عقود في تكوين رأي مضلل وخادع حول مدى جودة نظامنا التعليمي وكفاءته،فالحقيقة أنّ هذه السبل الممهدة والفرص الذهبية الوظيفية لم تكن بسبب جودة مخرجات التعليم وإنّما بسبب قلة عدد المتعلمين مما قلل من المنافسة والتزاحم في تلك الأيام،كما أنّ إصرار الدولة في تلك الفترة على أن تكون أجهزتها الإدارية وهيكلها التنفيذية مكونةً من المواطنين قد ساهم في تقليل الاشتراطات وخفض سقف الكفاءة المطلوب توفرها مما مكن الغالبية من العمل،كل هذه الأسباب ساهمت في الشعور بالرضا عن حال نظامنا التعليمي في ذلك الوقت،ولكن فيما بعد الطفرة وحينما تزايد عدد السكان بمعدل الضعف تقريباً وحينما مرت الظروف الاقتصادية السيئة بالسعودية في التسعينيات الميلادية، مما قلل من عدد الفرص الوظيفية حتى كادت تختفي تماماً في تلك السنوات، وأصبحت المنافسة بفعل عامل القلة والندرة في غاية الضراوة والقسوة وأصبح الحلم بالوظيفة في تلك الأيام مثل الحلم بمنزل العمر في هذه الأيام.. ضرباً من الوهم!! في تلك الظروف القاسية والممحصة بدأ التوجس والشك في كفاءة نظامنا التعليمي ومدى قدرته على تمكين صاحبه من الحياة الكريمة،وبدأ طوفان الأسئلة في الجريان-ولايزال- عن مواءمة هذا التعليم للعصر الحديث؟ وعن مدى جودة أدواته التي يعطيها لطلابه لكي يقتحموا ميادين العمل المكتظة أو ميادين البحث العلمي؟ وعن جدوى انفاق السنين في رحاب كتاتيبه المبجلة والمملة؟ ورغم الدعم الحكومي الضخم جداً للتعليم في السنوات الأخيرة ورغم مشروع خادم الحرمين الشريفين للتطوير وميزانيته الضخمة ورغم كل التصريحات والخطب لا تزال كتاتيبنا الموقرة عصيةً على التطوير والتحديث!!! أمّا لماذا فهو ما ستحاول المقالتان القادمتلن -عن المعلم والطالب واللتجهيزات المدرسية وعن تأثير الخطاب الديني والسياسي والمجتمعي- أن تجيب عنه. 0566651519