منذ كان أفلاطون والفارابي وكل الفلاسفة القدماء يحلمون بالمجتمع المثالي.. لم يكن أحدٌ يقول إن المجتمع لابد أن يخلو من إشكاليات، فالمشاكل الداخلية هي سمة عادية ضرورية لكل المجتمعات مدنيها وبدائيها على حد سواء. وإزاء هذه الأخطاء والمشاكل في كل مجتمع، يظن بعض الناظرين أن الفرق بين المجتمعات المدنية الحرة وغيرها، هي أن الأولى لا يحصل فيها مجموعة الأخطاء والظلم والفساد والإخلال بالحقوق وغير ذلك، بينما الثانية يحصل فيها كل ذلك وهذا وهم غير علمي. المجتمعات الخصبة يجب أن تمتلك عناصر كفيلة بملاحقة الظلم والفساد ومحاولة تسليط الضوء عليه ومحاربته إعلامياً وعملياً، بينما المجتمعات المفتقرة للقدر الكافي من ذلك هي تلك المجتمعات التي قد توجد فيها أخطاء مماثلة لكن عناصر داخلية تحميها من الفضح والكشف والمحاربة، فتتضخم الأخطاء وتضاعف المشاكل المتعلقة بمسألة واحدة. ولعل هذا هو ما تعبر عنه الأدبيات الدينية، بأن المعصية تجلب المعصية والخطأ يلد الخطأ، وهكذا حتى تتشكل سلسلة كبيرة من الأخطاء والتجاوزات والمظالم المرتبطة أساساً بخطأ واحد. بينما في قوانين العدالة والحرية، يتم تحجيم الخطأ الواحد وتحديد مصدره ومحاربته وكشفه، وبالتالي ترتبط تلك الأخطاء وحالات الفساد بشريحة أوسع يصعب القيام على فضحها وكشفها.. إذاً.. الفرق ليس في أن مجتمعاً ما يمنع كل أشكال الظلم والأخطاء ومجتمعاً آخر ليس كذلك، بل في أن مجتمعاً يمتلك عناصر تحميه من نفسه، وبوضوح، مجتمعاً يصحح نفسه، ومجتمعاً آخر لا يمتلك تلك العناصر. فمثلاً في مجتمع يعتمد على العلاقات والمعارف المتمثلة في الوساطات ، لكي يتجاوز أحد ما خطأه عليه أن يعرف أحدا ما أو أن يمتلك شبكة علاقات جيدة تنقذه في المواقف الصعبة، وهذه الشبكة عليها أن تلجأ إلى هذا الشخص نفسه إذا احتاجت موضوعاً مشابهاً يمتلك وزناً يستطيع أن ينقذ أصحابه في حالات حرجة. فبالتالي، هذه الشبكة تتوسع وترتبط ببعضها وتصبح جزءاً لا يتجزأ من شبكة مترابطة، تعتمد على العلاقات المحضة، وهنا تطور أخطائها، لأن لديها الرصيد الكافي الذي ينقذها في كل الحالات الحرجة وفي كل حالات الظلم والخطأ والفساد. وفي هذه الأمثلة كلها، فإن الرسالة الواضحة التي يوصلها عناصر هذه الشبكة الاجتماعية المترابطة المرتبطة بمصالح مشتركة هي أن على المرء أن يمتلك معارف وعلاقات كي يتخلص من أخطائه .. وليس عليه على الإطلاق أن يصحح أخطاءه أو أن لا يكررها، فضلاً عن أن يحاول تعويض المجتمع من تلك الممارسات الخاطئة.. الفرق هو بين الاعتماد هنا على "الجماعة" و"الأصدقاء" و"المعارف"، عوضاً عن الاعتماد على الكفاءة والأهلية والمسؤولية الفردية وتصحيح الأخطاء والاعتراف بها، هو نفسه الفرق بين مجتمع الاستثناءات والمحسوبيات ومجتمع القدرات والكفاءات..! المجتمع المتعافي هو الذي يتفوق على ذاته، ويصحح أخطاءه، ويتجاوز إشكالياته من خلال الآليات الكفيلة بالفضح والكشف أولاً، والمساءلة ثانياً، والحرب ثالثاً ضد هذه الأخطاء، وليس هو المجتمع الذي لا توجد فيه الأخطاء والإشكاليات والمظالم.