عبدالله العودة - الجزيرة السعودية منذ كان أفلاطون والفارابي وكل الفلاسفة القدماء يحلمون بالمجتمع المثالي.. لم يكن أحدٌ يقول إن المجتمع لا بد أن يخلو من إشكاليات.. فالمشاكل الداخلية هي سمة عادية ضرورية لكل المجتمعات مدنيها وبدائيها على حد سواء. وإزاء هذه الأخطاء والمشاكل في كل مجتمع يظن بعض الناظرين أن الفرق بين المجتمعات المدنية الحرة والتي غير ذلك هي أن الأولى لا يحصل فيها مجموعة الأخطاء والظلم والفساد والإخلال بالحقوق وغير ذلك.. بينما الثانية يحصل فيها كل ذلك وهذا وهم غير علمي. المجتمعات الحرة المدنية هي التي تمتلك عناصر داخلية في المجتمع كفيلة بملاحقة الظلم والفساد والإخلال بقانون العدل ومحاولة تسليط الضوء عليه وفضحه ومحاربته إعلامياً وعملياً.. بينما المجتمعات المفتقرة للقدر الكافي من ذلك هي تلك المجتمعات التي قد توجد فيها أخطاء مماثلة لكن عناصر داخلية تحميها من الفضح والكشف والمحاربة.. وهذا بالتحديد هو الفرق بين مجتمعات العدالة وبين غيرها. ولأن المجتمعات المفتقرة لعناصر الفضح والتعديل والإصلاح في المجتمع تخفي تلك الأخطاء والتجاوزات والمظالم، فإن الخطأ يكرر نفسه ويرتبط بسلسلة من العناصر الداخلية التي تحميه بل وتعيش عليه حتى لا تستطيع الانفصال عنه بل ربما اقتاتت على بقايا طعامه واعتاشت من المظالم التي تحصل فتتضخم الأخطاء وتتضاعف المشاكل المتعلقة بمسألة واحدة.. ولعل هذا هو ما تعبر عنه الأدبيات الدينية بأن المعصية تجلب المعصية والخطأ يلد الخطأ.. وهكذا حتى تتشكل سلسلة كبيرة من الأخطاء والتجاوزات والمظالم المرتبطة أساساً بخطأ واحد.. بينما في قوانين العدالة والحرية.. يتم تحجيم الخطأ الواحد وتحديد مصدره ومحاربته وكشفه.. ومن خلال عمليات كشفه وفضحه وتسليط الضوء عليه تعتاش عناصر جديدة يكون كل همها فضح الأخطاء والمشاكل الاجتماعية والسياسية.. وتتشكل مجموعات جديدة وتتوالد العناصر التي تحمي المجتمع من هذا الخطأ الواحد وتحمي المجتمع من تكرار الخطأ أو تضخمه.. فعند المقارنة.. مجتمع العدالة والحرية.. تعتاش عناصره وتقوى في طريق فضح الإشكالات والتجاوزات والمظالم.. بينما المجتمعات الأخرى تعتاش عناصرها على الاستفادة من تلك الأخطاء والتجاوزات واستغلال وجودها لمغانم فردية.. وبالتالي ترتبط تلك الأخطاء وحالات الفساد بشريحة أوسع يصعب القيام على فضحها وكشفها.. إذاً.. الفرق ليس في أن مجتمعاً ما يمنع كل أشكال الظلم والأخطاء ومجتمعاً آخر ليس كذلك.. بل في أن مجتمعاً يمتلك عناصر تحميه من نفسه.. وبوضوح.. مجتمعاً يصحح نفسه.. ومجتمعاً آخر.. لا يمتلك تلك العناصر بل عناصره تعتاش على تلك الأخطاء فبالتالي ترتبط بلحمتها وتصبح جزءا من شبكتها.. فمثلاً في مجتمع يعتمد على العلاقات والمعارف.. لكي يتجاوز أحد ما خطأه عليه أن يعرف احداً ما أو أن يمتلك شبكة علاقات جيدة تنقذه في المواقف الصعبة.. وهذه الشبكة عليها أن تلجا إلى هذا الشخص نفسه إذا احتاجت موضوعاً مشابه يمتلك وزناً يستطيع أن ينقذ أصحابه في حالات حرجة.. فبالتالي.. هذه الشبكة تتوسع وترتبط ببعضها وتصبح جزءاً لا يتجزأ من شبكة مترابطة.. تعتمد على العلاقات المحضة وهنا تطور أخطاءها لأن لديها الرصيد الكافي الذي ينقذها في كل الحالات الحرجة وفي كل حالات الظلم والخطأ والفساد.. وفي هذه الأمثلة كلها.. فإن الرسالة الواضحة التي يوصلها عناصر هذه الشبكة الاجتماعية المترابطة المرتبطة بمصالح مشتركة هي أن على المرء أن يمتلك معارفاً وعلاقات كي يتخلص من أخطاءه.. وليس عليه على الإطلاق أن يصحح أخطاءه أو أن لا يكررها.. فضلاً عن أن يحاول تعويض المجتمع من تلك الممارسات الخاطئة.. الفرق هو بين الاعتماد هنا على «الجماعة» و»الربع» و»الأصدقاء» و»المعارف».. عوضاً عن الاعتماد على الكفاءة والأهلية والمسئولية الفردية وتصحيح الأخطاء والاعتراف بها.. هو نفسه الفرق بين مجتمع الاستثناءات والمحسوبيات.. ومجتمع القدرات والكفاءات..! المجتمع الحر العادل هو الذي يتفوق على ذاته.. ويصحح أخطاءه.. ويتجاوز إشكالياته من خلال الآليات الكفيلة بالفضح والكشف أولاً.. والمساءلة ثانياً.. والحرب ثالثاً ضد هذه الأخطاء.. وليس هو المجتمع الذي لا توجد فيه الأخطاء والإشكاليات والمظالم..