يتسم الخطاب الليبرالي العربي بلغة دعائية تسويقية؛ حيث يروّج لليبرالية على أنها النظام السياسي والنسق الاجتماعي الوحيد القادر على تسيير الحياة سياسيًّا واقتصاديًّا بالطريقة الأمثل، فهي تمثل الحتمية التاريخية للفكر الإنساني، وعلى كل المجتمعات أن تهرع إلى تطبيقها في واقعها، لكي تسير وفق الصيرورة الطبيعية لحركة التاريخ. ولخدمة هذا الطرح يعمد الليبراليون إلى الترويج لمذهبهم على أنه مذهب الحرية، وكأنه الوحيد من وسط المذاهب الداعي إلى الحرية، وبالتالي كل من ينتقد الليبرالية ويرفضها فهو معادٍ للحرية وداعٍ للاستبداد والظلم! الحرية هي خصيصة هذا الإنسان، وما يميزه عن باقي المخلوقات، فهي مثال وأُفق عالٍ ينزع الإنسان إليه لتحقيقه في واقعه كباقي المثل كالجمال والعدالة والسعادة والحقيقة؛ فالإنسان بحكم إنسانيته مسكون بحبّ هذه القيم، والسعي نحو تطبيقها في مسيرة الحياة، لكن لا يمكن أن يدّعي الإنسان أنه قد حاز المثال وطبّقه مطلقًا في واقعه، فغاية الإنسان أن يقترب من المثال، ولكن لا يمكن أن يتملكه، وإلا فقد المثال قيمته الوظيفية، والتي تدفعه إلى السعي نحو الكمال فلا بد أن يبقى المثال في أفقه لضمان ترقي الإنسان. المذاهب البشرية تحاول أن تقترب من هذه المثل والقيم بإنتاج نظريات وأدوات تساعد في تطبيق هذه المثل في المجتمع، لكن يظل المثال في أفقه، ولا يدعي هذا المذهب أو ذاك أنه قد امتلكه، لكن ما حصل أن الليبرالية قد عمدت إلى مثال الحرية وأنزلته من عليائه، وادعت أنها قد طبّقت المثال بعينه وإطلاقه حتى صار هناك تطابق بين كلمة حرية وكلمة ليبرالية، فالمذهب الليبرالي هو مذهب الحرية، وبدا ذلك شبه مسلَّم به، والحق أن تلك جريمة ترتكب في حق الحرية؛ حيث تم حبسها في سياج المذهب وتمت عملية مسخ للحرية لتظهر في شكل مذهب، فمهما كان المذهب مرنًا لا يمكنه أن يحتوي المثال بإطلاقه، فالمُثُل غير قابلة للتجسيد الكامل، فما حصل أن الليبرالية قد سرقت الحرية !! وللتأسيس لهذا الخطأ يعتمد الخطاب الليبرالي على المعنى اللغوي للكلمة، فالليبرالية مشتقة من اللفظ اللاتيني ليبراليس، والذي يعني الشخص الكريم والنبيل والحر، وهذا المعنى الأخير وحده من بين باقي المعاني سوف يبنى عليه البناء الدلالي لليبرالية وبالتالي تصير الليبرالية مشتقة من الحرية ! ولكن المذاهب السياسية والاجتماعية ليست دوالاً لفظية يتم التعرف عليها في المعاجم، وإنما هي نتاج تفاعل مع الواقع واتصال بالتاريخ، وما يحتويه من اختلاف وصراعات في صيرورته، فالليبرالية كنسق مذهبي كانت واقعًا معاشًا قبل أن يظهر المصطلح في أرض المعجم في القرن التاسع عشر، فالفكر الليبرالي تأسس على يد منتجيه وزارعي بذوره في العقل الغربي أمثال جون لوك وآدم سميث وروسو وهيوم.. وقبل ذلك بكثير !! لذا من الخطأ المنهجي أن نعتمد على الدلالة المعجمية لليبرالية لفهم معناها، بل لا بد من مدخل مغاير لفهم دلالة الليبرالية، وهو المدخل التاريخي المتتبع لصيرورة تشكل الرؤية الليبرالية في الواقع، فهناك دومًا شرط تاريخي محايث للفكرة لا يمكن فصلها عنه، فما هو هذا الشرط المؤثر في الحالة الليبرالية؟ هناك مستوى معرفي وآخر واقعي، أما على المستوى المعرفي؛ حيث بدايات عصر النهضة والانفتاح المعرفي على ثقافات مغايرة للثقافة الكنسية الخانقة للفكر كالثقافة الإسلامية والهيلينية / اليونانية؛ مما سيشعر الوعي الغربي بقدر الحرمان الممارس عليه من السلطة الكنسية وأذرعها الإقطاعية والملكية مما سيخلق فيه توقًا إلى مثال الحرية، وأما على أرض الواقع، فهناك التحول إلى العصر الصناعي، والذي يستلزم مقومين: الأول رأس مال والذي بدوره كان متوفرًا في يد الطبقة البرجوازية المشتغلة بالتجارة. تمثلت المشكلة في المقوم الثاني وهو اليد العاملة، والتي كانت محبوسة في سياج الأرض تعاني ذل الإقطاع تعيش في الأرض لتعمل في الأرض، لكي تدفن فيها في نهاية المطاف! فلكي ينقل العبيد من الأرض إلى المصنع تم استغلال مثال الحرية وتوظيفه للدعوة إلى تحرير العبيد ليس رحمةً بهم ولا لسواد عيون الحرية، ولكن لخدمة الآلة في المصنع، فما جرى هو نقل محل الاستعباد لا أكثر من الأرض إلى المصنع! على هذا التأسيس تكون الليبرالية لم تحترم محض حرية الإنسان، وإنما وظفتها بطريقة تتناسب مع شرط تاريخي جديد، والدليل على ذلك أن البرلمانات الليبرالية هي التي أقرت قرارات إبادة الهنود الحمر، واستعباد سكان إفريقيا، ونهب ثرواتها، بالرغم من أنها ترفع شعار الحرية والمساواة!