الحياة الدنيا كثيرة الهموم قليلة السرور، تعب الأجسام وضعفها من ازدحام المطالب.. لا ينبغي أن نزيد النفس ايلاماً.. بالانقباض والغم فحسن الظن يريح الضمير ويبدل الشر خيراً ويوسع الحيلة ويديم المسرة.. وفي حسن الظن رضا.. التشاؤم يديم الغم ويصد عن العمل ويبعد عن الصواب.. سألت شيخنا الكبير عن حسن الظن في هذا الزمن. رد وقال: من جعل لحسن الظن نصيباً من نفسه روّح عن قلبه. أنا في زمن تشعبت فيه مشكلات الحياة على كثرة مطالبها، وتنوعت علل المعيشة على تزاحم همومها، حتى لقد صار سرور النفس ضالة مفقودة وانشراح الخاطر أمنية مقطوعة من تكاليف المدنية الحديثة وما تقتضيه نظم الحياة الجديدة. ولم تعد لأجسامنا كأسلافنا قدرة على معالجة الأمور. وفنى الصبر الذي كانوا يتعللون به في بلوغ الآمال.. فكيف نشغل أنفسنا بقبض الصدور ونقصها ليتوهم الغم ودوام السرور. ألم يأن لنا أن نفرج عن أنفسنا ونفسح صدورنا لحسن الظن حتى مع العدو العنيد.. فنداويه بالمزاح له وفي المزاح وفاق كي ننعم براحة الضمير،ونتفرغ لاجادة أعمالنا وتحسين أحوالنا ونهون متاعب الحياة بسعة حيلتنا ودوام مسرتنا، إلا أن أهدأ الناس بالاً وأهنأهم حالاً من صاحب الدنيا وعين رضاه عن كل عيب فيها كليلة. ترى كل شيء فيها حسناً جميلاً صاح شيخنا.. هذه هي الدنيا لمن تفاءل بصحبتها وهذا نصيبه من سعادتها. أما المتشائم فلا تقع عينه فيها إلا على السخط. ولا يشعر قلبه إلا بالبغض فيعيش في تردد وتوان حتى يقضي وما قضى من أدر أمله وطراً وهو يقول: هل الدهر إلا ليلة سُهدها تنفس عن يوم أصم عصيب إنما رجل الدنيا وصاحبها من ينظر بعين ملؤها الأمل في مستقبل طيب وحياة سعيدة، ومن يسلك مناهج الأعمال التي تصل به إلى أمنيته ومن يقتدي بمن كانوا مثله. فلم يزل يحدوهم جدهم ويعلو بهم نشاطهم حتى أوفى بهم الى رفيع المناصب. فابتسم لهم الدهر. وصافحتهم يد النعمة، فتقلبوا في ألوان النعيم وتمتعوا في بحبوحة العيش الرأفة والعز المقيم.. أولئك قوم لم يصل اليأس إلى قلوبهم ولم يحجب سوء الظن مواهب عقولهم، ولم ينظروا إلى المستقبل نظرة الجبان الهلوع.فيا عزيزي القارئ أن الرجل الذي يطول فكره في المستقبل فيظن السعادة محرمة عليه والسرور يفر من بين يديه. الجدير بأن تتراكم سحب الهموم على قلبه فتحجب عنه بارقة النعيم وشعاع الأمل فيطول شقاؤه ويدوم عناه. ولو أنه ظن خيراً واتبع الحديث القدسي في قول سيد المرسلين عن ربه.. أنا عند حسن ظن عبدي بي.. لروح عن نفسه ونفس عن قلبه ورفه على حياته وعيشته وأفسح له الأمل بمستقبل سعيد وعمر مديد وكما قال حكيم: أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل فعلى الإنسان أن يسعى في طلب السعادة وأن يثق بأنه لن يُحرم من سعيه نصيباً يدني إليه أمله فإن اخطأه الجد وتخطاه الحظ وقلما أخطأ مجداً فقد أعذر لنفسه.. وعلى المرء أن يسعى وليس عليه ادراك النجاح. فأما أولئك الذين رضوا بالأماني سلوة وامتهروا فيها العجز خوراً واشعروا قلوبهم سوء الظن فقلما يدركون في حياتهم حظاً أو يحرزون من الهناءة قسطاً، أولئك هم المتشائمون وما للمتشائمين من نعيم. فالعمر يجري والحياة تمضي، والناس يأتون ويذهبون ويأتي من بعدهم كثيرون ثم لا يلبث أن يذهب هؤلاء أيضاً يفسحون للأجيال القادمة من بعدهم مكاناً تحت الشمس ولا يبقى من الحياة بعد هذا إلا الذكرى الحلوة التي يتركها الناس بعد رحيلهم والنفوس الوفية التي تحفظ هذه الذكرى. مكة المكرمة