نهض متعبا على غير العادة يحمل جسده المتهالك من جراء المعارك والأسنة وهروب الأيام من بين يديه .. مرر أصابعه على وجهه الشاحب وهو يجول بخياله خلف أزمنة مهما طُلب منها العودة فلن تعود . كان دوي الصراخ يملأ رأسه وهواجسه كإعصار مداري يقترب من سواحل الروح ليقتلع ما تبقى منها .. وسؤال متجهم الملامح يقترب ليرمي بثقله فوق جسد الأجوبة الهادئة !! لم تكن ملامح ذلك السؤال بالغريبة فهي كثيرا ما كررت هذا الهجوم المتزمت ضد براءة النفس التي لم تعتد صراع الذات .. لماذا تقسو الحياة وتسلب مني جل أحلامي ؟ نظر لعينيه الزائغتين في المرأة المكسورة وعلى وجهه ملامح عتب على كل لحظاته التي لم تكترث بركضه طوال السنوات الماضية ، وعلى ورقة قديمة كان قد دون أسماء قفزت سلالم الحياة لتصل من أقصر الطرق وكأنه يقول ما الفرق بيني وبين هؤلاء ؟ أليس من حقي أن أحيا مع بعض من أحلامي ؟ للحياة وقسوتها معه صولات وجولات فهو لم يعرف للطفولة لون غير ألوان الشقاء والعتمة .. خرج صغيرا من دار مكتظ بأنفاس المطالبين بلقمة الحياة ، دار نصفه مهدم والنصف الأخر مرهون لتجار القسوة . ذهب ليبحث عن فتات يلمه من هنا وهناك تاركا طاولة المدرسة ورفقة الصباح ووجه أمه التي طالما مدت يدها لتمسح عن جبينه عرق الكادحين ودموع اللوعة . سرقته السنوات وهو يتعثر على دروبها فشاخ وحيدا في كهف بارد يحيطه الصخب وقرع أقدام المتسابقين نحو ضباب مخيف من يدخل دوامته لا يعود . شاهد بعينيه كيف يداس فوق الرؤوس الضعيفة ليعبر الأقوياء .. حاول أن يكون قويا وعند أول رأس تأهب لدهسها أصابه شلل الإنسانية وتقوقع في زاويته البعيدة وأخذ يتلو تسابيح الصبر التي حفظها من قلب أمه . ومضى ذلك الوجه الأسمر نحو المجهول يمني نفسه ببعض ما سُرق منه وفي جيبه ورقة عتيقة كانت قد دستها أمه تحمل الكثير من القيم التي حلفته أن يتبعها فسار على نهجها ليكتشف في نهاية المشوار أنها حكم لم تعد لزمن الطوفان فما هي غير ( مورفين ) يسكن الشعور بالحاجة و يصرف النظر عما في يد الغير كالذي يربط على بطنه بشدة ليوهمه أنه ممتلئ . جلس ذات مساء يحيطه ضوء شمعة شبه ذائبة يتحسس ما تبقى منه وإن كان هذا الجسد الواهن كبيت عنكبوت يستطيع السير ابعد نحو أمل لم يتحقق بعد .. نظر لساعته المخدشة وعقاربها المتسارعة نحو لفظ أنفاس الليل الأخيرة وكل شيء حوله منغمس في هدوء عميق عدا دقات قلبه التي اخترق صوتها حاجز أضلعه المثقلة ، وعينان شاردتان وكأنها تبحث عن أشرعة تلوح بها الرياح في الأفق . نهض مثقلا كعادته وكأن السنوات تتراكم فوق ظهره خلسة دون حساب وفتح النافذة المطلة على مطلع الشمس وكأنه يستعجل الشروق ليمضي ليوم ربما يكون الأخير وربما يأتي بعده مساء يحمل بين العتمة والفجر أطنانا من الخشية والتوجس والدموع الباردة كبرودة نبض الحياة . قبل أن يهم بالخروج فتح ورقة أمه العتيقة ليقرأ وصاياها .. هذه المرة وقعت عيناه على كلمات شعر وكأنه يقرأها لأول مرة .. توقف عندها كثيرا حتى أنه خشي أن يذهب النهار وهو يتمتم بأحرفها . تقول الوصية : يا بني تذكر أن الأمنيات والأحلام قد تتحقق حتى ولو في اليوم الأخير ، قبل الغروب الأخير ، قبل النفس الأخير .. لذلك عليك أن تعيش حياتك من أجل ذلك اليوم ودع قلبك ينبض بسلام ..