الجارية الفصيحة والمأمون .. يقول في حكاياته غفر الله له خرج مرة الخليفة العباسي المأمون في رحلة صيد وانطلق بجواده خلف غزالة طريدة حتى بلغ ماء الفرات. وكانت عندها جارية وبيدها قربة ملأتها وحملتها على كتفيها وصعدت لأعلى فانحل رباطها فصاحت بصوتها العذب. يا أبتِ أدرك فاها .. قد غلبني فوها .. لا طاقة لي بفيها .. ورمت القربة من يدها فعجب المأمون من فصاحتها وسألها يا جارية: من أي العرب أنت؟ قالت أنا من بني كلاب. قال وما الذي حملك أن تكوني من الكلاب؟ قالت: والله لست من الكلاب وإنما أنا من قوم كرام غير لئام يقرون الضيف ويضربون بالسيف .. ثم سألته يا فتى من أي الناس أنت؟ قال: أوعندك علم بالأنساب؟ قالت نعم. قال: أنا من مضر الحمراء. قالت: من أي مضر؟ قال: من أكرمها نسباً وأعظمها حسباً وخيرها أماً وأباً وممن تهابه مضر كُلها. قالت: أظنك من كنانة. قال: أنا من كنانة. قالت من أي كنانة؟ قال: من أكرمها مولداً وأشرفاً محتداً وأطولها في المكرمات يداً ممن تخافه كنانه وتهابه. قالت: إذن أنت من قريش. قال: أنا من قريش. قالت: من أي قريش؟ قال: من أجملها ذكراً ومن أعظمها فخراً تهابه قريش كلها وتخشاه. قالت: أنت والله من بني هاشم. قال: أنا من بني هاشم. قالت: من أي هاشم. قال: أعلاها منزلة وأشرفها قبيلة ممن تهابه هاشم وتخافه. وهنا انحنت الجارية وقبلت الأرض وقالت السلام عليك يا أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين. فعجب المأمون من فصاحتها وجمالها وأدبها فأقبل إلى أبيها وطلبها منه. فتزوجها وأنجبت له ولده العباس. قلت في نفسي وأنا أتذكر قول جدي هكذا كانت حكايات الأجداد هادفة ومؤثرة وذات مغزى وعبر إنها فصاحة العرب وعلمهم بالأنساب فهم لا يملون أسئلة وإجابة حتى يصلوا إلى غايتهم. فالبادية غنية بطبيعتها وفطرة أبنائها وهناك تراث وأمجاد تنبؤ عن ذكاء وفصاحة وسرعة بديهة العربي ولاشك أن تراثنا المجيد مليء بالقصص والأقوال والأمثال العربية الثمينة، وأقول إن البرَّ بار بأهله يلهمهم ويفطرهم على السليقة السليمة في تصرفاتهم وأقوالهم. فهم يقرؤون ويفهمون ويسمعون وينصتون ويقولون ما يفعلون، رحم الله ذلك التراث وألهمنا الإستفادة منه.