يبدو أننا نسينا أنفسنا في زحمة الحياة وركضنا المستمر ، أخذتنا الدروب بعيدا إلى أماكن لا تألفنا ، ونحن كذلك .. فلا بد أن نهادنها مجبرين كي نكسب ودها .. يمر بنا الوقت سريعاً فلا نشعر بتوالي الأيام والسنين ، ولا بالحنين المدفون في كهف الروح بصوته الخافت وومضاته الخاطفة لنمضي مع الحياة في رحلتها القاسية . في عراكنا معها نشعر بالمرارة وهزائمها المتتالية فنتوقف مقهورين والجراح تملأ الروح ، ليصدح صوت الحنين مجددا يحاول مداواة نزف مشاعرنا .. يسرقنا هذا الحنين برهة ليعود بنا لمراتع الصِبا ، يصطحبنا لحاراتنا القديمة وأبوابها الخشبية العتيقة ، ووجوه الجيران التي بقيت كما هي محفورة في قعر الوجدان . عندها فقط نشعر بالهزة التي حاولنا كثيرا مجافاتها ، والهرب منها .. هزة العمر الذي مضى بنا ونحن نشاهد المساحات الواسعة التي ركضنا معها قد صغرت ، وتجاعيد الزمن قد خطت لحظاتها على جدران بيتنا القديم . كل شيء لبس من الزيف خرقاً بالية ، ولطخ قشوره بألوان باهتة لا تظل طويلاً .. ويبقى الحنين الساكن في تلك الأماكن محتفظاً بعبقه البديع ، ورائحة الطين وهي تستقبل قطرات المطر القادم بعد طول غياب وكأنها تعطر الأرجاء تكريماً لهذا الزائر الكريم . في دروبنا القديمة تستوقفنا وجوه عبرت بخفة النسائم الباردة في فصل صيف قد مضى ، نتصافح بحرارة ونعاود الركض سوياً .. ننبش الأحلام الغابرة ونختار الفرح من بينها وقبل خط الأفق بقليل نتوقف لنشاهد غروب الشمس فأتذكر رحيل العمر الذي لا يعود إلا مع الذكريات . *لمحة عابرة : يُُحكى في القصص أن سليمان عليه السلام سأل النسر أن يضرب بجناحيه الآفاق باحثا عن أبهج مكان في الأرض .. فطار النسر وغاب ، ثم آب بالبشرى .. فارتحل الوفد الكريم إلى بشارة النسر ، وإذا هي شجرة يابسة ، يحوطها ماء آسن .. فتساءلوا : أهذا هو أجمل مكان في الأرض ؟ فقال النسر : نعم..إنه المكان الذي ولدتُ فيه . [email protected]