يضع الله بين أعين الإنسان حقيقة لا بد أن يتذكرها حتى لا تأخذه الدنيا من الآخرة. هذه الحقيقة كثيرا ما تتردد في القرآن {كُل نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُم إلينَا تُرْجَعُونَ} (العنكبوت:57)، فنقطة النهاية لرحلة الإنسان على الأرض تتمثل في "الموت" الذي يُعَد هدفا للعودة إلى رحاب الله. وبذلك تكون علاقتنا بالله هي التي لها أهمية، ومع ذلك يكون من الخطأ أن نقول أنها كل ما يهم؛ لأنه كما علمنا، ترتبط علاقتنا مع الله تماما بتعاملنا مع أخينا الإنسان. وتلعب العبادات والتأمل والذكر أدوارا متماسكة تقربنا من الله. وتشبه لحظة البعث كما يصورها القرآن إيقاظا من نوم عميق، فينفخ صوت مدو ليوقظ الموتى: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصورِ} (الأنعام: 73). وسوف يهرول الناس في ذعر من قبورهم التي يشير إليها القرآن على أنها "أماكن نومهم": {وَنُفِخَ فِي الصورِ فَصَعِقَ مَن فِي السمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلا مَن شَاءَ اللهُ ثُم نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} (الزمر :68). وتبدو الحياة الدنيا وكأنها خيال، يرتبكون حول زمن وجودهم على الأرض، يقدرها بعضهم بعشر أيام أو أقل، ويقدرها آخرون بيوم أو أقل: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لبِثْتُمْ إِلا عَشْرا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَة إِن لبِثْتُمْ إِلا يَوْما} (طه: 103-104). تماما مثل حلم الإنسان، تفصيلاته تكون غير واضحة، فسوف تكون رؤية الناس مشوشة، مثل من استيقظ من النوم لتوه {فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ} (القيامة:7). ثم تحتد رؤيتهم بعد ذلك ويدركون الحقيقة: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَق ذَلِكَ مَا كَنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصورِ ذَلِكَ يَوْمُ الوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُل نَفْسٍ معَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ منْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليوْمَ حَدِيدٌ} (ق: 19-22). ويبدو الصالحون وكأن لديهم ذكرى طفيفة عن صراعاتهم الدنيوية، ومن حقت عليهم اللعنة يبدو أن لهم ذكرى طفيفة عن ملذاتهم الأرضية، فقد ذكر أنس - رضي الله عنه- عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة، ثم يقال له: يا بن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى أشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط". ولا نقصد من ذلك أن حياتنا على الأرض كانت أحلاما أو أوهاما. فكل ما نمارسه واقعا وجزاء أعمالنا سوف تجنيه أرواحنا في الآخرة ولكن برحمة من الله، فالشدائد التي يتحملها المؤمنون الصادقون سوف تمحى من ذاكرتهم ، مثل طفل حديث الولادة. سينسى الصالحون وجودهم السابق، رغم أنه الذي حملهم إلى حيث هم فيه من جنات ونعيم. لا زلت أعود إلى خواطر ضيف صفحتنا، أسمع بين حروفها آية لم يذكرها: {وَتَزَودُوا فَإِن خَيْرَ الزادِ التقْوَى} (البقرة:197). يباغتني بعدها سؤال الرحمن: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ منَ الدهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئا مذْكُورا} (الإنسان:1)، كل ما فعلته أن سمعت سورة الإنسان فور أن وردت على ذهني، ذهبت أذني لصوت القارئ عبد الباسط عبد الصمد. حلقت في سماء آيات كنت بحاجة لتذكرها. استكملت معاني لم يستطع قلمي التعبير عنها. كل ما أقدر عليه أن أعرض على مسامعكم ما سمعته: فن الخطاب الإلهي، ورطب الصوت القرآني.