إذا كان الهدف من الحياة هو أن ننمي فينا الفضائل التي تصل إلى كمالها في الله، لكي نتلقى ونمارس صفاته الحسنى بأكبر درجاتها، ونزداد بذلك قربا من الله، وإذا كانت الأعمال الصالحة تعزز هذا النمو، والسيئات تدمره، فإن الإنسان يكسب أو يخسر طبقا لعمله .ذكر الله ذلك المبدأ وأكده وكرره بوضوح، نذكر على سبيل المثال : " ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ ذَلِكَ بمَِا قَدمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَن اللهَ لَيْسَ بِظَلامٍ للْعَبِيدِ " توضح الأقوال في القرآن وفي سنة النبي - صلي الله عليه وسلم - أن قلب المسيء مظلم وقاس كالحجر، وأن قلوب الصالحين لينة وحساسة، تتلقى إرشاد الله الذي يقفز فورا إلى العقل .فتبين آيات الله أن من يعملون السيئات يدمرون أنفسهم بسيئاتهم؛ إذ إنهم لا يظلمون سوى أنفسهم . ومع عظم الأذى الذي يصيبنا من السيئة نحو التقدم الروحي، فإن الباب مفتوح دائما لإصلاح الذات " التوبة " بفضل مغفرة الله ورحمته .فعندما يغفر لنا يفعل أكثر من مجرد تجاوز أو محو سيئاتنا، فنجده يساعدنا على إصلاح الأذى الذي أصبنا به أنفسنا : وتأتي المبادرة من المذنب؛ لأن الخطوة الأولى للإصلاح تبدأ ب " الاعتراف بالذنب " ؛ لأننا يجب أن نعرف سوء سلوكنا ونعترف بحاجاتنا إلى معرفة الله لكي نبدأ في الشفاء .هذا يشبه كثيرا ما يقوله مستشارو الكحوليات لأسر مدمني المخدرات اليائسة : لن يمكنا مساعدة المدمن إذا لم يعترف بأن لديه مشكلة، وأنه يحتاج لمساعدة، فالصدق والإخلاص جوهريان هنا . وغالبا ما يكون الشفاء من الذنب عملية صعبة ومؤلمة، تساندها مغفرة الله .فهي تعني البدء من جديد، ومعاناة آلام النمو والتي تستلزم عملا وجهدا .إنها ليست لحظة منفرة التي تصلحنا، بل هو الالتزام الأمين بتحول حياتنا تحولا كاملا وتحسين أنفسنا .وهكذا، يصرح القرآن أن توبة اللحظة الأخيرة من الحياة للنجاة من عذاب الآخرة لا تجدي؛ لأن حافزنا لم يكن رغبة صادقة للإصلاح، ولم يتبق في الحياة وقتا كافيا لتحسين الذات : " وَلَيْسَتِ التوْب َةُ لِلذِينَ يَعْمَلُونَ السيئَاتِ حَتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِني تُبْتُ الآنَ وَلاَ الذِينَ يمَُوتُونَ وَهُمْ كُفارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابا أليما " ( النساء : .) 18 الموت ونسيان الماضي يضع الله بين أعين الإنسان حقيقة لا بد أن يتذكرها حتى لا تأخذه الدنيا من الآخرة .هذه الحقيقة كثيرا ما تتردد في القرآن " كُل نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُم إلينَا تُرْجَعُونَ " ( العنكبوت : ) 57 ، فنقطة النهاية لرحل الإنسان على الأرض تتمثل في " الموت " الذي يُعَد هدفا للعودة إلى رحاب الله . وبذلك تكون علاقتنا بالله هي التي لها أهمية، ومع ذلك يكون من الخطأ أن نقول أنها كل ما يهم؛ لأنه كما علمنا، ترتبط علاقتنا مع الله تماما بتعاملنا مع أخينا الإنسان .وتلعب العبادات والتأمل والذكر أدوارا متماسكة تقربنا من الله . وتشبه لحظة البعث كما يصورها القرآن إيقاظا من نوم عميق، فينفخ صوت مدو ليوقظ الموتى : " ي َوْمَ يُنفَخُ فِي الصورِ " ( الأنعام : .) 73 وسوف يهرول الناس في ذعر من قبورهم التي يشير إليها القرآن على أنها " أماكن نومهم ":" وَنُفِخَ فِي الصورِ فَصَعِقَ مَن فِي السمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلا مَن شَاءَ اللهُ ثُم نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُر ُونَ " ( الزمر : .) 68 ويبدو الصالحون وكأن لديهم ذكرى طفيفة عن صراعاتهم الدنيوية، ومن حقت عليهم اللعنة يبدو أن لهم ذكرى طفيفة عن ملذاتهم الأرضية، فقد ذكر أنس - رضي الله عنه - عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله : " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة، ثم يقال له : يا بن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول : لا والله يا رب .ويؤتى أشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له : يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول : لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط " . ولا نقصد من ذلك أن حياتنا على الأرض كانت أحلاما أو أوهاما .فكل ما نمارسه واقعا وجزاء أعمالنا سوف تجنيه أرواحنا في الآخرة ولكن برحمة من الله، فالشدائد التي يتحملها المؤمنون الصادقون سوف تمحى من ذاكرتهم ، مثل طفل حديث الولادة . سينسى الصالحون وجودهم السابق، رغم أنه الذي حملهم إلى حيث هم فيه من جنات ونعيم . لا زلت أعود إلى خواطر ضيف صفحتنا، أسمع بين حروفها آية لم يذكرها : " وَتَزَودُوا فَإِن خَيْرَ الزادِ التقْوَى " ( البقرة : .) 197 يباغتني بعدها سؤال الرحمن : " هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ منَ الدهْرِ لَمْ ي َكُن شَيْئا مذْكُورا " ( الإنسان : ) 1 ، كل ما فعلته أن سمعت سورة الإنسان فور أن وردت على ذهني، ذهبت أذني لصوت القارئ عبد الباسط عبد الصمد .حلقت في سماء آيات كنت بحاجة لتذكرها .استكملت معان لم يستطع قلمي التعبير عنها .كل ما أقدر عليه أن أعرض على مسامعكم ما سمعته : فن الخطاب الإلهي، ورطب الصوت القرآني .