سُئل كاتب، وأديب كبير عن سر تخليه عن كتاباته الادبية، والنقدية، وتفرّغه للكتابة في "طفح المجاري، وحفريات الشوارع، وبراميل القمامة" فقال ضاحكاً، وساخراً: إن كل ما كتبه في النقد الأدبي، والإبداع الفكري لا يُساوي - من حيث المقابل المادي - مكافآت عام واحد حصل عليها من كتاباته "في الصرف الصحي - وحفريات الشوارع، وبراميل القمامة" واضاف أنه وهو أديب بارز، ومفكر مرموق لم يكن احد يعرفه من عامة قراء الصحف كما هو الحال وقد اصبح كاتبا، وناقداً، ومعلقاً في مجال الصرف الصحي، وطفح المجاري، وامتلاء براميل القمامة، ولذلك فهو سعيد بما هو فيه رغم - حسرته - على مسيرته الادبية والفكرية، والابداعية. وتأكيداً، أو تضامناً مع ما قاله هذا الاديب المرموق أتذكر صورة لا أنساها للاديب، والمفكر، والمثقف محمد حسن عواد الذي كان يمارس رياضة المشي حول مطابع الاصفهاني التي كانت تطبع في مطلع التسعينات الهجرية ثلاث صحف لا تُبادر واحدة منها إلى الطلب، أو الرجاء - وهو يستحق ذلك، وأكثر - ليكتب لها مقالاً أسبوعيا وهو في كامل عافيته، ونضجه، ونبوغه، وتمنحه مكافأة تليق بمكانته، وقامته، وكانت - إذا ورد عليها خاطر تكريمه عندما يزورها قبل رياضة المشي، أو بعده أن تطلب من أحد محرريها الصغار أن يجري لقاء معه، وهذا كان يحدث نادراً، وكان يسعده ذلك رغم حزنه الدفين بما يحدث حوله، وأمامه. وقد تذكرت هاتين الصورتين وأنا أقرأ ملامح عن خناقة صحفية بين كاتب قال عن الأعمدة الصحفية - معظمها، وليس كلها بطبيعة الحال - إنها "سلق بيض" فجاء الرد من البعض، وليس الكل بأن سلق البيض هذا سببه افراد المجتمع، وهمومه اليومية التي بينها "طفح المجاري، وتلال القمامة، وحفريات الشوارع".. إلخ، إلخ.. ولم يضع أحد من هؤلاء اللوم على الصحف التي تُفضّل هذا النوع من الكتابات على غيرها من الكتابك الجادة، والعميقة، وتُعطي عليها مكافآت مُجزية لا تُعطيها لدراسات أدبية، أو مقالات فكرية، أو قصص اجتماعية، أو قصائد شعرية، أو غيرها من فنون الأدب، والثقافة، والفكر، والتنوير..؟ وقبل فترة كتبت موضوعاً عما يشبه "سلق البيض".. ونشرته في كتابي "عشاء على شرف نيتشه".. وهذا هو الموضوع: لبس عدد من الصحفيين "ثوب المثقفين".. وانطلقوا يكتبون القصص، والقصائد بعد أن زاحمهم عدد من المثقفين في عقر دارهم بكتابة المقالات الصحفية البحتة. نزل الأدباء من "برجهم العاجي" لخوض غمار النقد الصحفي فيما يتعلق بمشاكل الخدمات العامة من مخالفات بناء، ومخالفات مرور، ومخالفات نظافة، ومخالفات تصاريح تجارية، وأعمال غش، وغيرها، وغيرها.. وصعد الصحفيون الى "البرج العاجي" يكتبون القصص، والقصائد ويناقشون في شؤون، وشجون الشعر الحر، والشعر العمودي، وأيهما الصالح، وأيهما الطالح. وبدا لي أن الثوب الذي يرتديه الصحفيون "ضيق جدا عليهم" وأن الثوب الذي يرتديه الأدباء "واسع جدا عليهم".. وهناك من يرى العكس فيؤكد، أو يجزم أن الثوب الذي يرتديه الصحفيون "واسع جدا" وأن الثوب الذي يرتديه المثقفون"ضيق جدا".. وسواء كان ثوب الصحفيين ضيقا جدا عليهم وهم يخوضون في مسائل الادب، أو واسع جداً، وأن ثوب المثقفين واسع جدا عليهم وهم يسرحون، ويصولون، ويجولون في مسائل الصحافة، أو ضيق جدا فإن من يحكم على هؤلاء، وهؤلاء هو "التاريخ". والتاريخ نفسه طويل، وأحكامه متأنية، غير متسرعة، وأنا شخصيا أجد في كتابات بعض المثقفين الصحفية "متعة، وجرأة" لا أجدها في كتابات بعض الصحفيين. وأجد في كتابات بعض الصحفيين الأدبية "تهوراً، وبساطة" لا أجدها في كتابات بعض المثقفين. ومع التسليم - شبه الكامل- بأن بضاعة السادة الصحفيين مستمدة من الأدب، وأن بضاعة المثقفين مستوحاة من الصحف فلا غنى للطرفين عن بعضهما البعض باعتبار أن الجميع يحاربون في "ساحة واحدة".. ويستخدمون نفس الشعار المعروف وهو "المصلحة العامة" ولذلك يكون طبيعيا أن "يتعاونوا، وأن يتكاتفوا" وأن يستفيدوا من خبرات، ومهارات بعضهم البعض في سبيل الارتقاء، والرقي بهذه المصلحة العامة، وإعلاء شأنها الذي فيه إعلاء لهذا القلم، ورسالته، وأمانته، وصدقه، وإخلاصه، وما يؤديه من خدمات نبيلة تكون محل احترام، وتقدير المتلقي.. وأنا هنا - لست بصدد - فض هذا الاشتباك بين ثقافة الصحفيين، وصحافة المثقفين بل أنا مع هذا الاشتباك لتستفيد صحافتنا من هذا التدخل، وهذا التداخل فتكون لنا هذه الأقلام الصحفية "المشبعة بالثقافة، أو المستفيدة من دخول الثقافة عليها، والتحامها بها" فلا تبدو هشة وهي تتحمّل مسؤولياتها، وعملها في بلاط صاحبة الجلالة، وتكون لنا هذه الأقلام المثقفة "المشبعة بروح العمل الصحفي" فلا تبدو بعيدة عمّا يجري حولها من أحداث. وعلينا أن نرحب بانضمام المثقفين إلى قائمة الصحفيين، ونرحب بانضمام الصحفيين إلى قائمة المثقفين، ونطالب بضرورة توسيع التعاون بينهم فنكسب مزيداً من المثقفين في البلاط الصحفي، ونكسب مزيدا من الصحفيين في البرج العاجي مع مراعاة الاختيارات المناسبة، والظروف المناسبة لضمان النجاح لكل طرف "شرط ألا يفتح الباب على مصراعيه لنتفادى مسألة الثوب الواسع، والثوب الضيق، ونصل إلى الثوب المناسب، للقلم المناسب، في المكان المناسب، والوقت المناسب".