لست أجد من أتوجه إليه بحديثي هذا سوى السيدة سوزان مبارك لسببين: أولهما تجربتها الاجتماعية في ريف مصر وحضرها وجهدها في مكافحة ثقافة الفقر والاهتمام بالفئات محدودة الدخل. وثانيهما أننا في مصر مثل بلاد الشرق نهتم بالقائل أكثر مما نهتم بما يقول ولذلك كانت أقدر من غيرها على وضع الكثير من المبادرات الجادة موضع التنفيذ الفعلي. السيدة سوزان مبارك وحدها يمكن أن تضع تلك الفئات التي عملت من أجلها طويلا في دائرة اهتمام إعلامي مختلف تماما عما يحدث حاليا. فالفقر ليس في كل الأحوال مستويات متدنية من الدخل المالي. وحتى لو نجحنا في زيادة تلك الدخول وتجاوزنا بها حدود الفقر التي وضعتها الأممالمتحدة فلن يختفي الفقر بأبعاده النفسية والاجتماعية. الفقر في كثير من جوانبه حالة من العوز أو العجز النفسي والاجتماعي ونقص شديد في المهارات اللازمة لاستغلال الموارد المتاحة على نحو يوفر من الحياة أفضل. والفقر بهذا المعنى أكثر انتشارا من الفقر الاقتصادي. الكثير من الأسر المصرية التي تعيش فوق خط الفقر مباشرة مثل غيرها ممن تعيش دون هذا الخط تواجه العديد من المشكلات في التغذية الصحية والعلاقات الاجتماعية الصحيحة والمزاج النفسي المتوازن والقدرة على الحراك الاجتماعي والشك في المستقبل. خلال العقدين الماضيين قفزت قطاعات فوق خط الفقر بقليل ولكنها لاتزال تعاني مشكلات الفقراء بالأمية النفسية السائدة وانخفاض مستويات الوعي. هؤلاء وهؤلاء بحاجة إلى من يأخذ بيدهم إلى طريق ينتهي بهم في كل الحالات إلى مستوي أفضل من الحياة. فقراء الدخل والوعي معا في بلادنا تركوا لمستويات متدنية من التعليم أو بلا تعليم على الإطلاق ووقعوا فريسة لتجارة الترفيه الرخيص في السينما والغناء والدراما والمقاهي التي خدرت إحساسهم بالواقع وجردتهم من أي قدرة على رفض الفقر أو تغييره بقدراتهم الذاتية أو حتى بمساعدة غيرهم. وليس أقدر من وسائل الإعلام على انتشال هؤلاء وهؤلاء من فقر الوعي الذي ينتهي في أغلب الأحيان إلى فقر المال. في سنوات السبعينيات وأثناء المناقشات الدولية حول العلاقة بين الحكومة ووسائل الإعلام، كان الاهتمام بالفقراء وتنمية جوانب حياتهم المختلفة حجة قوية لدي المدافعين عن استمرار نمط الملكية الحكومية أو العامة لوسائل الإعلام.. ولكن تجربة العقود الثلاثة الماضية أثبتت أن المحتوي الإعلامي في مختلف أنحاء العالم سواء صدر عن مؤسسات حكومية أو خاصة إنما يخضع لاحتياجات وأذواق واهتمامات الطبقات غير الفقيرة. والنتيجة أن احتياجات الفقراء أهملت وزادت الفجوة المعرفية في المجتمعات في وقت أصبح ينظر فيه إلى المعرفة على أنها أحد الموارد التي ينبغي أن تحظى بتقسيم عادل في المجتمع. يقول أحد كبار الاقتصاديين الأمريكيين إن العامل المهم في مواجهة الفقر هو النظر إلى نصيب الفقراء من المعلومات وليس من الموارد المادية فقط فالعامل الذي يفصل بين الطبقات الاقتصادية في الولاياتالمتحدة هو الوصول إلى المعلومات. ومنذ ثلاثة عقود بدأ التحذير من انتشار الفجوة المعرفية داخل المجتمعات حيث تمتلك الأقلية كافة مصادر المعرفة فيما تعاني الأغلبية ندرة في هذه المصادر. وفي ظل اقتصاد المعلومات فإن المعرفة تتحول إلى ثروة. وفي الولاياتالمتحدة يحذر الاقتصاديون من أنه إذا استمر الاختلال في توزيع الدخل حيث يحصل الخمس الأول من ذوي الدخول العليا علي 60% من الدخل العام الأمريكي فيما يحصل الخمس الأخير وهم الأشد فقرا علي 2% فقط. ومهما تكن التقديرات بشأن عدد الفقراء في مصر، فإنهم يمثلون قطاعا كبيرا من المجتمع المصري لا يلقى أدنى اهتمام حقيقي من وسائل الإعلام. والاهتمام الإعلامي الذي أعنيه لا ينصرف إلى الحديث عن مشاكلهم أو الأعباء التي يتحملونها فما أكثر المتاجرين بالآم الفقراء في بلادنا والعاملين على تسييس مشكلاتهم. وإنما أعني الإعلام الذي يساعدهم على مواجهة الفقر ونبذ ثقافته وتخفيف معاناته والتقليل من آثاره الاجتماعية والنفسية. اهتم الإعلام المصري بالفقراء في برامج التليفزيون وأفلام السينما من باب تقديم نماذج من البشر تنطوي على قدر من الإثارة والغرابة والطرافة والشذوذ. تماما مثل شخصيات المدرسة الطبيعية في روايات إميل زولا والأخوين دي جنكور وغيرهم. في بعض الأحيان يصبح الفقراء في وسائل الإعلام فرجة دون أن تقدم شيئا يساعد هؤلاء على الخروج من دائرة الفقر بمعناه النفسي والاجتماعي وليس الاقتصادي فقط. في إندونيسيا نجحت تجربة الصحافة الزراعية وهي وريقات تحمل بعض المعلومات التي تساعد الفلاحين الذين تم محو أميتهم في حقول الأرز على زيادة الإنتاج وتعلم بعض المهارات الاجتماعية والنفسية التي تعينهم على حياة اجتماعية صحيحة وتحقق لهم توازنا نفسيا مطلوبا. وفي كثير من دول العالم اهتم التلفزيون بترشيد إنفاق الفقراء في ضوء الموارد المحدودة وقدمت سلاسل من برامج الطهي التي تساعد في استخدام نفس الموارد المتاحة في إعداد وجبات صحية متوازنة رخيصة التكلفة تساعد في مكافحة سوء التغذية لدي الصغار والكبار معا. وهناك سلاسل من البرامج التي ساعدت كثيرا من الأسر في إدارة مواردهم المحدودة. وسلاسل أخرى من البرامج كان هدفها حفز طاقاتهم النفسية وضبط علاقاتهم الاجتماعية. عشرات من التجارب نحتاجها بدلا من نظل نتحدث إلى المجتمع عن الفقراء. مساحات محدودة من ساعات طويلة مهدرة من برامج التلفزيون والراديو يمكن ان تدعم جهود مكافحة الفقر بمعناه الاقتصادي في مصر وتتكامل معها. منذ سنوات كان التليفزيون يحتفل بما سمي عيدالقمح. وكالعادة كان الاحتفال حفلا غنائيا إذ يبدو من الصعب علينا أن نتخلى عن الهزل والغناء والسخرية في مواقف الجد. وفيما بين الفقرات الغنائية كانت هناك لقاءات تحث الناس خاصة ربات البيوت في الريف والأحياء الشعبية على الاقتصاد في استهلاك الخبز. ولم تجد مقدمة الحفل سوي ممثلة مشهورة كانت من قبل عارضة للأزياء تسألها عن سر رشاقتها وجمالها فكانت الإجابة أنها تتبع نظاما غذائيا لا تأكل فيه إلا القليل من الخبز. وفي اللقاء الثاني جاءت بممثلة أخري تعرض تجربتها في الاستفادة من بقايا الخبز في البيت فشرحت بحماس كيف أنها تستخدم بقايا الخبز المحمر في صنع نوع من السلطة باستخدام زيت الزيتون. هكذا نتعامل مع توعية الفقراء وحفز طاقاتهم لتغيير واقعهم الفقير. لن يفلح الدعم الحكومي وحده في مكافحة الفقر بل إن استمراره دون الاهتمام بتغيير ثقافة الفقر سوف يزيد من الأعباء: أعباء الدعم على الاقتصاد وأعباء الفقر على الفقراء. لن نخسر شيئا لو أننا أضفنا إلى مبادرات مكافحة الفقر المالى مبادرة أخرى لتغيير ثقافة الفقر ومكافحة الأمية النفسية السائدة بين الفقراء عبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية وعبر جميع قنوات الاتصال الاخرى وفي المقدمة منها مناهج التعليم. ومثل هذه المبادرة بحاجة إلى دعم الأغنياء لأن انتشار ثقافة الفقر وسلوكياتها لن تجعل حياتهم آمنة مهما حاولوا تجنبها في صروحهم النائية المعزولة. وقبل أن يتسرع البعض ويشكك في جدوى هذه النوعية من البرامج في مواجهة فيضان الترفيه عبر التليفزيون، أشير إلى أن هذه البرامج سوف تنجح إذا ما أسندت إلى خبرات قادرة على جذب الانتباه وإثارة الاهتمام. فقد اعتدنا طويلا على أن نسند برامج التنمية الجادة إلى موظف بدرجة مذيع أو مخرج فيما نسند برامج الترفيه والتسلية إلى الموهوبين من المخرجين والمذيعين. وأذكر الجميع أن سلسلة حلقات شارع سمسم التي تعد أكثر السلاسل التليفزيونية شعبية في العالم وقد ترجمت إلى كل لغات العالم تقريبا بل أصبحت مرجعا في استخدام التلفزيون التعليمي كانت في الأصل حلقات أنتجت من أجل الأقليات الفقيرة في المجتمع الأمريكي التي كانت تعاني عوزا في الفرص التعليمية لأطفالها. الأهرام المصرية