الأستاذ محمد حسنين هيكل ليس بالصحافي العادي لجهة قدرته على الحصول على المعلومات ولا سيِّما منها تلك التي تُسلِّط ضوءاً على جوانب وأبعاد معتمة من حدث سياسي كبير بدأ ولم يبلغ نهايته بعد، كحدث الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، فتكون له، بالتالي، مساهمة كبيرة في كَسْو عظام بعض التحليلات السياسية بشيء من اللحم. والأستاذ هيكل يحصل على جزء كبير من المعلومات، التي جرت العادة أن ينشرها ويذيعها عبر فضائية "الجزيرة" على وجه الخصوص، من طريق القراءة، فهو قارئ من العيار الثقيل، ويتمتَّع، على كِبَر سنِّه، بذاكرة فولاذية، ويُحْسِن أرشفة معلوماته، كما يُحْسِن استعمالها، وإنْ بدرجة أقل. مشكلتي عند الاستماع إلى أحاديثه، مع أنَّني مُقِلٌّ كثيراً في الاستماع إليه، أنَّني أجد صعوبة كبرى في الوقوف على كثيرٍ من المعاني التي يريد إيصالها إلى عقول مشاهديه ومستمعيه؛ أمَّا السبب فعنده وليس عندي؛ ذلك لأنَّه يتشعَّب ويتفرَّع كثيراً في حديثه، ف"الفقرة" الواحدة من حديثه تتمزَّق إرباً إرباً، وعليك، بالتالي، إذا ما أردت الإحاطة بالمعنى، أو ببعضه، أن تعيد تجميع أجزائها. فقانون "تداعي المعاني" لديفيد هيوم يفسد كثيراً من ترابط الحديث وتماسكه المنطقي، فهو ما أن يشرع يُحدِّثكَ في أمر ما حتى يتذكَّر، أو تقفز إلى ذهنه وذاكرته، فكرة أو حادثة أو معلومة، فيشرع يعرضها؛ ولكنه قبل أن ينتهي من هذا العرض يتذكَّر شيئاً آخر، فيشرع يحدِّثكَ فيه؛ وهكذا يتشعب حديثه ويتفرَّع، فتشعر أنَّكَ في متاهة. وهناك من المشاهدين من يُعْجَب بالمتحدِّث، مفسِّراً هذا التشعُّب والتفرُّع على أنَّه غزارة في المعلومات والفكر والرأي؛ وأنا لستُ من عداد هؤلاء؛ لن أستفيض وأسترسل في الحديث عن "أسلوب" حديث الأستاذ هيكل، فهذا ليس الأمر الذي وددتُ التحدُّث فيه. لقد استوقفني، وأثار دهشتي، ما قاله الأستاذ هيكل في شأن أسباب، أو حيثيات، قرار الحكومة الإسرائيلية وقف إطلاق النار من جانب واحد. وأوَّل ما استوقفني وأثار دهشتي هو "المعلومة" التي ابتنى منها الأستاذ هيكل رأيه في السبب الحاسم لذلك القرار الإسرائيلي الأحادي. قال الأستاذ هيكل، في عرضه تلك "المعلومة"، إنَّ إدارة الرئيس المنتخب أوباما قد أبلغت إلى حكومة أولمرت أنَّ أوباما لا يريد رؤية بقعٍ من الدم على شاشات التلفزيون يوم تنصيبه، فالحفل يجب أن يكون ناصع البياض، وخالصاً من "اللون الأحمر" ولو كان لون فستان زوجة أوباما. "المعلومة" في حدِّ ذاتها، وبصرف النظر عن صدقيتها، أو مدى صدقيتها، ليست هي التي أثارت اهتمامي، وإنَّما "مَصْدرها"، وكيفية وصولها إلى الأستاذ هيكل، الذي كان ينبغي له أن يحدِّث مشاهديه ومستمعيه عن ذلك قبل أن يعرضها، ويبني عليها رأياً، وموقفاً بالتالي. إنَّي لم اسمع، ولم أرَ، ما يَحْملني على تصديق أنَّ إدارة الرئيس المنتخب أوباما قد أبلغت إلى حكومة أولمرت ما ذكره الأستاذ هيكل، وكأنَّه أمرٌ لا ريب فيه. ونحن يجب ألاَّ ننسى أنَّ الأستاذ هيكل قد أفشى هذه "المعلومة" عندما تعاظَم الانتقاد لاعتصام أوباما بحبل الصمت اللاذهبي إزاء استمرار واشتداد حرب إسرائيل النازية على قطاع غزة، واستبدَّ الشعور بالحيرة بكثيرٍ من الذين علَّلوا أنفسهم بأوهام التغيير الذي سيجترحه الرئيس المنتخب، فصمته أصبح سرَّاً مستغلقاً على الفهم والتعليل والتبرير. أوباما، وعلى ما يمكن ويجب أن نستنتج من "معلومة" الأستاذ هيكل، لم يَخْتَر الصمت، أو الصمم، موقفاً؛ ذلك لأنَّه، بحسب تلك "المعلومة"، سارع إلى إبلاغ الحكومة الإسرائيلية موقفاً، فاختارت "الاستخذاء" موقفاً من هذا الموقف، وقرَّرت وقف إطلاق النار من جانب واحد! في هذه الفقرة الصغيرة من حديث الأستاذ هيكل أُنْجِزَت المهمَّة الأولى وهي تبرئة الرئيس المنتخب أوباما من تهمة الصمت، أو الصمم، في وقت تحدَّت المأساة الإنسانية الكبرى التي حلَّت بأهل غزة، والتي تُنْطِق الحجر، "رسول التغيير" أن ينطق ولو بكلمة إنسانية واحدة، فما كان منه إلاَّ أن صمَّ أُذنيه، وأغلق عينيه، وابتلع لسانه، منتظِراً حفل التنصيب لينطق كفراً بعد صمته دهراً (بحسب ساعة الضحايا من أهل غزة). وكان يكفي أن تُنْجَز هذه المهمة الأولى حتى تُنْجَز في سياقها المهمة الثانية، فلا فضل لقطاع غزة، مقاومةً شعباً وصموداً وتضحيةً، في "إقناع" الحكومة الإسرائيلية بضرورة، وأهمية، و"فضيلة"، أن تُوْقِف إطلاق النار من جانب واحد، وبلا قيد أو شرط. دعونا نفترض أنَّ إسرائيل قد خرجت إلى الحرب على قطاع غزة مقيَّدة بمهلة تنتهي قبيل حفل التنصيب. إذا صحَّ هذا الافتراض فإنَّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل كان قادة الحرب في إسرائيل يتصوَّرون أن تنتهي الحرب، ومعها المهلة، إلى ما انتهت إليه، وهو قرارٌ تُوقِف فيه الحكومة الإسرائيلية إطلاق النار من جانب واحد؟ ما حدث (وهذا ما كان ينبغي للأستاذ هيكل ألاَّ ينكره) هو أنَّ قطاع غزة قد أبدى من المقاومة والصمود والبطولة ما صَنَع نتائج ذهبت بالتوقُّع الإسرائيلي الأساسي، والذي من أجل جعله حقيقة واقعة أُعْطِيَت "المهلة". لو صدقت "معلومة" الأستاذ هيكل لوجَب علينا أن نفترض أن محتواها كان الآتي: اتَّصلت إدارة الرئيس المنتخب أوباما قبيل حفل تنصيبه، فأبلغت إلى الحكومة الإسرائيلية أنَّ المهلة أوشكت أن تنفذ، أو نفذت فعلاً، من غير أن يتمكَّن الجيش الإسرائيلي من إنجاز المهمة الأساسية، ولم تتمخَّض حربه الفاشلة، بالتالي، إلاَّ عن مزيد من جرائم الحرب، فحان لإسرائيل أن تُوْقِف حملتها العسكرية، ولو من خلال قرار حكومتها وقف إطلاق النار من جانب واحد، وأن تحاوِل، من ثمَّ، بالتعاون مع حلفائها الظاهرين والمستترين، الحصول عبر الاتفاقات الدولية والإقليمية، وعبر الدبلوماسية والسياسة وضغوط إعادة البناء والتعمير، على ما عجزت عن الحصول عليه بالحرب. كان على الأستاذ هيكل أن يدرك أنَّ العلاقة بين قرار الحكومة الإسرائيلية وقف إطلاق النار من جانب واحد وبين حفل تنصيب أوباما ليست "سببية" وإنَّما "زمنية"، فذاك القرار اتُّخِذ "قبيل" تنصيب أوباما، وليس ب"سبب" قرب تنصيبه. إنَّني لأعْجَبُ من أمرهم، أي من أمر العرب، فإذا هم هزموا هزيمة منكرة في حرب قرَّرت إسرائيل إدخالهم فيها راحوا يزركشون ويزيِّنون ويهوِّنون هزيمتهم، فيظهرونها تارةً على أنَّها "نكبة" لا يد لهم فيها، وكأنَّها من صنع القضاء والقدر، وطوراً على أنها "نكسة"، ولو شهد التاريخ على أنَّها أعظم من هزيمة. أمَّا إذا أُتيح لعربٍ، في ظرف غياب "الدولة"، أن "ينتصروا" على إسرائيل من خلال منعها من قطف "انتصار سياسي" من حربها، فيظهر من بين ظهرانينا من يمسخ ويشوِّه ويقزِّم هذا "الانتصار"، وقد يبلغ به العداء لكل سياسة عربية لا تسقى بروح الانهزام مبلغه، فيَنْسِب "هزيمة" إسرائيل إلى غير صانعها الحقيقي، ولو كان الحليف الدولي الأعظم لها! عن العرب اللندنية